القول في تأويل قوله تعالى : { اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُوَاْ إِلََهاً وَاحِداً لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : اتخذ اليهود أحبارهم ، وهم العلماء . وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا . قيل واحدهم حِبْر وحَبْر بكسر الحاء منه وفتحها . وكان يونس الجرميّ فيما ذكر عنه يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا «حِبر » بكسر الحاء ، ويحتجّ بقول الناس : هذا مداد حِبْر ، يراد به : مداد عالم . وذكر الفراء أنه سمعه حِبرا وحَبرا بكسر الحاء وفتحها . والنصارى رهبانهم ، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : اتّخَذُوا أحبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال : قرّاءهم وعلماءهم .
أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ يعني : سادة لهم من دون الله يطيعونهم في معاصي الله ، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرّمه الله عليهم ويحرّمون ما يحرّمونه عليهم مما قد أحله الله لهم . كما :
حدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي ، عن غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عديّ بن حاتم ، قال : انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ فقال : «أَما إنّهُمْ لم يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ ، ولَكِنْ كَانُوا يُحِلّونَ لهم فَيُحِلّونَ » .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا مالك بن إسماعيل ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعا عن عبد السلام بن حرب ، قال : حدثنا غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عديّ بن حاتم ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : «يا عَدِيّ اطْرَحْ هذا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ » قال : فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة ، فقرأ هذه الآية : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال : قلت : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم فقال : «أليس يَحرّمونَ ما أحَلّ اللّهُ فَتُحَرّمُونَهُ ، ويُحِلّونَ ما حَرّمَ اللّهُ فَتُحِلّونَهُ ؟ » قال : قلت : بلى . قال : «فَتِلكَ عِبادَتُهُمْ » واللفظ لحديث أبي كريب .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية عن قيس بن الربيع ، عن عبد السلام بن حرب النهدي ، عن غطيف ، عن مصعب بن سعد ، عن عديّ بن حاتم ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة براءة فلما قرأ : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قلت : يا رسول الله ، أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم ؟ قال : «صَدَقْتَ ، ولَكِنْ كانُوا يُحِلّونَ لَهُمْ ما حَرّمَ اللّهُ فَيَسْتَحِلّونَهُ ، ويُحَرّمُونَ ما أحَلّ اللّهُ لَهُمْ فَيُحَرّمُونَهُ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، عن حذيفة ، أنه سئل عن قوله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ كانوا يعبدونهم ؟ قال : لا ، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن أبي البختريّ ، قال : قيل لأبي حذيفة فذكر نحوه ، غير أنه قال : ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيستحلونه ، ويحرّمون عليهم الحلال فيحرّمونه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوّام بن حوشب ، عن حبيب ، عن أبي البختري قال : قيل لحذيفة : أرأيت قول الله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ ؟ قال : أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ، ولا يصلون لهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا أحله الله لهم حرّموه ، فتلك كانت ربوبيتهم .
قال : حدثنا جرير وابن فضيل ، عن عطاء ، عن أبي البختري : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال : انطلقوا إلى حلال الله فجعلوه حراما ، وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالاً ، فأطاعوهم في ذلك ، فجعل الله طاعتهم عبادتهم ، ولو قالوا لهم اعبدونا لم يفعلوا .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، قال : سأل رجل حذيفة ، فقال : يا أبا عبد الله أرأيت قوله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ أكانوا يعبدونهم ؟ قال : لا ، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن أشعث ، عن الحسن : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال : في الطاعة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ يقول : وزينوا لهم طاعتهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال عبد الله بن عباس : لم يأمروهم أن يسجدوا لهم ، ولكن أمروهم بمعصية الله ، فأطاعوهم ، فسماهم الله بذلك أربابا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال : قلت لأبي العالية : كيف كانت الربوبية التي كانت في بني إسرائيل ؟ قال قالوا : ما أمرونا به ائتمرنا ، وما نهونا عنا انتهينا لقولهم : وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه ، فاستنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
حدثني بشر بن سويد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري ، عن حذيفة : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال : لم يعبدوهم ، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي .
وأما قوله : والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فإن معناه : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله .
وأما قوله : وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلَها وَاحِدا فإنه يعني به : وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبار والرهبان والمسيح أربابا إلا أن يعبدوا معبودا واحدا ، وأن يطيعوا إلا ربّا واحدا دون أرباب شتى وهو الله الذي له عبادة كلّ شيء وطاعة كلّ خلق ، المستحقّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية ، لا إله إلا هو . يقول تعالى ذكره : لا تنبغي الألوهة إلا لواحد الذي أمر الخلق بعبادته ، ولزمت جميع العباد طاعته . سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول : تنزيها وتطهيرا لله عما يشرك في طاعته وربوبيته القائلون عزير ابن الله ، والقائلون المسيح ابن الله ، المتخذون أحبارهم أربابا من دون الله .
واحد «الأحبار » حِبر بكسر الحاء ، ويقال حَبر بفتح الحاء والأول أفصح ، ومنه مداد الحبر ، والحَبر بالفتح : العالم ، وقال يونس بن حبيب : لم أسمعه إلا بكسر الحاء ، وقال الفراء : سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم ، وقال ابن السكيت الحِبر : بالكسر المداد والحَبر بالفتح العالم ، و «الرهبان » جمع راهب وهو الخائف من الرهبة ، وسماهم { أرباباً } وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم ، وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية ، وحكي الطبري أن عدي بن حاتم قال : «جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك ، فسمعته يقرأ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم ؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا ؟ قلت نعم . قال فذاك »{[5613]} ، { والمسيح } عطف على الأحبار والرهبان ، و { سبحانه } نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل ، والتقدير أنزهه تنزيهاً ، فمعنى { سبحانه } تنزيهاً له ، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى { عما يشركون } ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار .