قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته ، وتصديق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق أضَلّ أعمالَهمْ يقول : جعل الله أعمالهم ضلالاً على غير هدى وغير رشاد ، لأنها عملت في سبيل الشيطان وهي على غير استقامة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول تعالى ذكره : والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته ، واتبعوا أمره ونهيه وآمَنُوا بِمَا نُزّلَ على مُحَمّدٍ يقول : وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ يقول : محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيىء ما عملوا من الأعمال ، فلم يؤاخذهم به ، ولم يعاقبهم عليه وأصْلَحَ بالَهُمْ يقول : وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه ، وفي الاَخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه .
وذُكر أنه عنى بقوله : الّذِينَ كَفَرُوا . . . الآية أهل مكة ، وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالحِاتِ . . . الآية ، أهل المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله : الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : نزلت في أهل مكة وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ قال : الأنصار .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : وأصْلَحَ بالَهُمْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : أمرهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : شأنهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : أصلح حالهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأصْلَحَ بالَهُمْ قال : حالهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأصْلَحَ بالَهُمْ قال حالهم . والبال : كالمصدر مثل الشأن لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا بالات .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم . { وآمنوا بما نزل على محمد } تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه ، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله : { وهو الحق من ربهم } اعتراضا على طريقة الحصر . وقيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ ، وقرئ " نزل " على البناء للفاعل و " أنزل " على البناءين و " نزل " بالتخفيف . { كفر عنهم سيئاتهم } سترها بالإيمان وعملهم الصالح . { وأصلح بالهم } في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد .
هذا مقابل فريق الذين كفروا وهو فريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإيراد الموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلته ، أي لأجل إيمانهم الخ كفَّر عنهم سيئاتهم .
وقد جاء في مقابلة الأوصاف الثلاثة التي أثبتت للذين كفروا بثلاثة أوصاف ضدها للمسلمين وهي : الإيمان مقابل الكفر ، والإيمانُ بما نُزل على محمد صلى الله عليه وسلم مقابل الصد عن سبيل الله ، وعملُ الصالحات مقابل بعض ما تضمنه { أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] ، و { وكفّر عنهم سيئاتهم } مقابل بعض آخر مما تضمنه { أضلّ أعمالهم } ، { وأصلح بالهم } مقابل بقية ما تضمنه { أضل أعمالهم } . وزيد في جانب المؤمنين التنويه بشأن القرآن بالجملة المعترضة قوله : { وهو الحق من ربهم } وهو نظير لوصفه بسبيل الله في قوله : { وصدوا عن سبيل الله } [ محمد : 1 ] .
وعبر عن الجلالة هنا بوصف الربّ زيادة في التنويه بشأن المسلمين على نحو قوله : { وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] فلذلك لم يقل : وصدّوا عن سبيل ربهم .
وتكفير السيئات غفرانها لهم فإنهم لما عملوا الصالحات كَفَّر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها قبل الإيمان ، وكفر لهم الصغائر ، وكفر عنهم بعض الكبائر بمقدار يعلمه إذا كانت قليلة في جانب أعمالهم الصالحات كما قال تعالى : { خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم } [ التوبة : 102 ] .
والبال : يطلق على القلب ، أي العقل وما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه ، قال امرؤ القيس :
فعادي عداء بين ثور ونعجة *** وكان عداء الوحش مِنّي على بال
ومنه قولهم : ما بالك ؟ أي ماذا ظننت حين فعلت كذا ، وقولهم : لا يبالي ، كأنه مشتق منه ، أي لا يخطر بباله ، ومنه بيت العُقيلي في الحماسة :
ونبكي حين نقتلكم عليكم *** ونقتلكم كأنَّا لا نُبالي
وحكى الأزهري عن جماعة من العلماء ، أي معنى لا أبالي : لا أكره اه . وأحسبهم أرادوا تفسير حاصل المعنى ولم يضبطوا تفسير معنى الكلمة .
ويطلق البال على الحال والقدر . وفي الحديث « كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر » قال الوزير البطليوسي في شرح ديوان امرىء القيس : قال أبو سعيد : كنت أقول للمعري : كيف أصبحت ؟ فيقول : بخير أصلح الله بَالك . ولم يوفه صاحب الأساس حقه من البيان وأدمجه في مادة ( بلو ) . وإصلاح البال يجمع إصلاح الأمور كلها لأن تصرفات الإنسان تأتي على حسب رأيه ، فالتوحيد أصل صلاح بال المؤمن ، ومنه تنبعث القوى المقاومة للأخطاء والأوهام التي تلبس بها أهل الشرك ، وحكاها عنهم القرآن في مواضع كثيرة والمعنى : أقام أنظارهم وعقولهم فلا يفكرون إلا صالحاً ولا يتدبرون إلا ناجحاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.