القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ بالفاحشة المُحْصَناتِ يعني العفيفات الغافِلاتِ عن الفواحش المُؤْمِناتِ بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، لُعِنُوا فِي الدّنيْا والاَخِرَةِ يقول : أُبْعِدوا من رحمة الله في الدنيا والاَخرة . وَلَهُمْ في الاَخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ وذلك عذاب جهنم .
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهن ، فقال بعضهم : إنما ذلك لعائشة خاصة ، وحكم من الله فيها وفيمن رماها ، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خَصِيف ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : الزنا أشدّ أم قذف المحصَنة ؟ فقال : الزنا . فقلت : أليس الله يقول : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ . . . الآية ؟ قال سعيد : إنما كان هذا لعائشة خاصة .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سَلَمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : رُمِيت بما رُمِيت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك ، قالت : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس ، إذ أُوحي إليه ، وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السّبات . وإنه أُوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح عن وجهه ، وقال : «يا عائشة أبْشِري » قالت : فقلت : بحمد الله لا بحمدك فقرأ : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ .
وقال آخرون : بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء غيرهنّ . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ . . . الآية ، أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، وعُني بها كلّ من كان بالصفة التي وصف الله هذه الآية . قالوا : فذلك حكم كلّ من رَمى محصنة لم تقارف سُوءا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، عن جعفر بن برقان ، قال : سألت ميمونا ، قلت : الذي ذكر الله : الّذينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى قوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَحُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فجعل في هذه توبة ، وقال في الأخرى : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ . . . إلى قوله : لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ؟ قال ميمون : أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت ، وأما هذه فهي التي لم تقارف شيئا من ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن شيخ من بني أسد ، عن ابن عباس ، قال : فسّر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : إنّ الّذِينَ يرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ . . . الآية ، قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة . ثم قرأ : وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى قوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْد ذلك وأصْلَحُوا . . . الآية ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة . قال : فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسّر سورة النور .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدّنيْا والاَخِرَةِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال : هذا في عائشة ، ومن صنع هذا اليومَ في المسلمات فله ما قال الله ، ولكن عائشة كانت إمام ذلك .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجَلْد وقبل التوبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِنات . . . إلى : عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، رماهنّ أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله . وكان ذلك في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد ذلك : وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى قوله : فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تُقبل ، والشهادة تردّ .
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها .
وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله عمّ بقوله : إنّ الّذِينَ يَرمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ كلّ محصنة غافلة مؤمنة رماها رام بالفاحشة ، من غير أن يحضّ بذلك بعضا دون بعض ، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والاَخرة وله عذاب عظيم ، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته ، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَحُوا على أن ذلك حكم رامي كل محصنة بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية ، وعلى أن قوله : لُعِنُوا في الدّنيْا والاَخِرَةِ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ معناه : لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا .
{ إن الذين يرمون المحصنات } العفائف . { الغافلات } عما قذفن به . { المؤمنات } بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كابن أبي . { لعنوا في الدنيا والآخرة } لما طعنوا فيهن . { ولهم عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم ، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب ، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا توبة له ، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها .
قال سعيد بن جبير إن هذه الآية التي تضمنت لعن القاذف وتوعده الشديد إنما هي خاصة في رماة عائشة ، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما بل هذه لجميع أزواج النبي عليه السلام ، غلظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين ، فلعن قاذفهن ولم يقرن بآخر الآية توبة ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق ، وذكرت له التوبة ، وقالت جماعة من العلماء بل هي في شأن عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة ، وقال بعض هذه الفرقة إن هذه الآية نزلت أولاً في القاذفين ، ثم نزلت بعد ذلك الآية التي صدرت في السورة التي فيها التوبة ، وقد تقدم القول في { المحصنات } ما معناه ، و «اللعنة » في هذه الآية الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم وزوالهم عن رتبة العدالة ، وعلى من قال إن هذه الآية خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أُبي وأَشباهه{[8654]} وفي ضمن رمي المحصنة رمي الرجل معها وقد يكون مؤمناً ،
جملة : { إن الذين يرمون المحصنات } استئناف بعد استئناف قوله : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا } [ النور : 19 ] والكل تفصيل للموعظة التي في قوله : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين } [ النور : 17 ] ؛ فابتدىء بوعيد العود إلى محبة ذلك وثُني بوعيد العود إلى إشاعة القالة ، فالمضارع في قوله : { يرمون } للاستقبال . وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } [ النور : 21 ] .
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه .
و { الغافلات } هن اللاتي لا علم لهن بما رُمين به . وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رُمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلاً عنه فالمعنى : إن الذين يرمون المحصنات كذباً عليهن ، فلا تحسب المرادَ الغافلات عن قول الناس فيهن . وذكر وصف { المؤمنات } لتشنيع قذف الذين يقذفونهن كذباً لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى .
وقوله : { لعنوا } إخبار عن لعن الله إياهم بما قدَّر لهم من الإثم وما شَرع لهم .
واللعن : في الدنيا التفسيق ، وسلب أهلية الشهادة ، واستيحاش المؤمنين منهم ، وحد القذف ، واللعن في الآخرة : الإبعاد من رحمة الله .
والعذاب العظيم : عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعيّن هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة .