القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مّنْ هََذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل فرعون لقومه بعد احتجاجه عليهم بملكه وسلطانه ، وبيان لسانه وتمام خلقه ، وفضل ما بينه وبين موسى بالصفات التي وصف بها نفسه وموسى : أنا خير أيها القوم ، وصفتي هذه الصفة التي وصفت لكم ، أمْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ لا شيء له من المُلك والأموال مع العلة التي في جسده ، والاَفة التي بلسانه ، فلا يكاد من أجلها يبين كلامه ؟
وقد اختُلف في معنى قوله : أمْ في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناها : بل أنا خير ، وقالوا : ذلك خبر ، لا استفهام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : أمْ أنا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ قال : بل أنا خير من هذا . وبنحو ذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة .
وقال بعض نحويي الكوفة ، هو من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله . قال : وإن شئت رددته على قوله : ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ ؟ وإذا وجه الكلام إلى أنه استفهام ، وجب أن يكون في الكلام محذوف استغني بذكر ما ذكر مما ترك ذكره ، ويكون معنى الكلام حينئذٍ : أنا خير أيها القوم من هذا الذي هو مهين ، أم هو ؟ .
وذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك «أما أنا خَيْرٌ » .
حُدثت بذلك عن الفرّاء قال : أخبرني بعض المشيخة أنه بلغه أن بعض القرّاء قرأ كذلك ، ولو كانت هذه القراءة قراءة مستفيضة في قَرَأة الأمصار لكانت صحيحة ، وكان معناها حسنا ، غير أنها خلاف ما عليه قرّاء الأمصار ، فلا أستجيز القراءة بها ، وعلى هذه القراءة لو صحّت لا كلفة له في معناها ولا مؤونة .
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار . وأولى التأويلات بالكلام إذ كان ذلك كذلك ، تأويل من جعل : أمْ أنا خَيْرٌ ؟ من الاستفهام الذي جعل بأم ، لاتصاله بما قبله من الكلام ، ووجهه إلى أنه بمعنى : أأنا خير من هذا الذي هو مهين ؟ أم هو ؟ ثم ترك ذكر أم هو ، لما في الكلام من الدليل عليه . وعنى بقوله : مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ : من هذا الذي هو ضعيف لقلّة ماله ، وأنه ليس له من الملك والسلطان ماله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أمْ أنا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِين قال : ضعيف .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ مِنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ قال : المهين : الضعيف .
وقوله : وَلا يَكادُ يُبِينُ يقول : ولا يكاد يُبين الكلام من عِيّ لسانه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا يَكادُ يُبِينُ : أي عَيّ اللسان .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام .
{ أم أنا خير } مع هذه المملكة والبسطة . { من هذا الذي هو مهين } ضعيف حقير لا يستعد للرئاسة ، من المهانة وهي القلة . { ولا يكاد يبين } الكلام لما به من الرتة فكيف يصلح للرسالة ، و{ أم } إما منقطعة والهمزة فيها للتقرير إذ قدم من أسباب فضله ، أو متصلة على إقامة المسبب مقام السبب . والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون فتعلمون أني خير منه .
وقوله : { أم أنا خير } قال سيبويه : { أم } هذه المعادلة ، والمعنى : أم أنتم لا تبصرون ، فوضع موضع قوله : أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى . و «لا » على هذا النظر نافية . وقالت فرقة : { أفلا تبصرون } أم لا تبصرون ، ثم اقتصر على { أم } لدلالة ظاهر الكلام على المحذوف منه ، وابتدأ قوله : { أنا خير } إخباراً منه ، فقوله : { أفلا } على هذا النظر بمنزلة : هلا ولولا على معنى التخصيص . وقالت فرقة : { أ } بمعنى بل .
وقرأ بعض الناس : «أما أنا خير » ، حكاه الفراء ، وكان مجاهد يقف على { أم } ثم يبتدئ : { أنا خير } . قال قتادة : وفي مصحف أبي بن كعب : «أم أنا خير أم هذا » . و { مهين } معناه ضعيف وقوله : { ولا يكاد يبين } إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة ، وذلك أنها كانت أحدثت في لسانه عقدة ، فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله ، أجيبت دعوته ، لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه ، لكن فرعون عير به . وقوله : { ولا يكاد يبين } يقتضي أنه كان يبين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.