البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمۡ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٞ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (52)

{ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ، أي بل أنا خير .

وهو إذا استفهم أهو خير ممن هو ضعيف ؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم ، وهو الملك المتحكم فيهم ، قالوا له : بلا شك أنت خير .

وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل ، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر ، كقول الشاعر :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أم أنت في العين أملح

وقال سيبويه : أم هذه المعادلة : أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى .

وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ، لأن المعنى : أفلا تبصرون ؟ أم تبصرون ؟ إلا أنه وضع قوله : { أنا خير } موضع { تبصرون } ، لأنهم إذا قالوا : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب . انتهى .

وهذا القول متكلف جداً ، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق ، وإن كان السابق جملة فعلية ، كان المعادل جملة فعلية ، أو جملة اسمية ، يتقدر منها فعلية كقوله { أدعوتموهم أم أنتم صامتون } لأن معناه : أم صمتم ؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية ، لأن قوله : { أم أنا خير } ؟ ليس مقابلاً لقوله : { أفلا تبصرون } ؟ وإن كان السابق اسماً ، كان المعادل اسماً ، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم ، نحو قوله :

أمخدج اليدين أم أتمت . . .

فأتمت معادل للاسم ، فالتقدير : أم متماً ؟ وقيل : حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه ، إذ التقدير : تبصرون ، فحذف تبصرون ، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا ، نحو : أيقوم زيد أم لا ؟ تقديره : أم لا يقوم ؟ وأزيد عندك أم لا ، أي أم لا هو عندك .

فأما حذفه دون لا ، فليس من كلامهم .

وقد جاء حذف أم والمعادل ، وهو قليل .

قال الشاعر :

دعاني إليها القلب إني لأمرها *** سميع فما أدري أرشد طلابها

يريد أم غيّ .

وحكى الفراء أنه قرأ : أما أنا خير ، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير .

{ ولا يكاد يبين } : الجمهور ، أنه كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة .

ومن ذهب إلى أن الله كان أجابه في سؤاله :

{ واحلل عقدة من لساني } فلم يبق لها أثر جعل انتفاء الإبانة بأنه لا يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي ، لأنه لا قدرة له على إيضاح المعنى لأجل كلامه .

وقيل : عابه بما كان عليه موسى من الخسة أيام كان عند فرعون ، فنسب إلى ما عهده مبالغة في التعيير .

وقول فرعون : { ولا يكاد يبين } ، كذب بحت .

ألا ترى إلى مناظرته له وردّه عليه وإفحامه بالحجة ؟ والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، كلهم بلغاء .

وقرأ الباقر : يبين ، بفتح الياء ، من بان إذا ظهر .