الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمۡ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٞ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (52)

قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } : في " أم " أقوالٌ ، أحدها : أنها منقطعةٌ ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال ، وبالهمزة التي للإِنكار . والثاني : أنها بمعنى بل فقط ، كقوله :

4001 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى *** وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ

أي : بل أنتِ . الثالث : أنها منقطعةٌ لفظاً ، متصلةٌ معنىً . قال أبو البقاء : " أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ ؛ إذ المعنى : أنا خيرٌ منه أم لا ، وأيُّنا خيرٌ " وهذه عبارةٌ غريبةٌ : أن تكونَ منقطعةً لفظاً ، متصلةً معنى ، وذلك أنهما معنيان مختلفان ؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً : إمَّا إبطالاً ، وإمّا انتقالاً . الرابع : أنها متصلةٌ ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره : أم تُبْصِرون . وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت " لا " بعد أم نحو : أتقومُ أم لا ؟ أي : أم لا تقوم . وأزيدٌ عندك أم لا ؟ أي : أم لا هو عندك . أمَّا حَذْفُه دون " لا " فلا يجوزُ ، وقد جاء حَذْفُ " أم " مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً . قال الشاعر :

4002 دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها *** سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها

أي : أم غَيٌّ . وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي " أم " المعادِلَةُ أي : أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده ، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى . قال : " وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال : " أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى : أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون ، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه : " أنا خيرٌ " موضعَ " تُبْصِرون " ؛ لأنهم إذا قالوا : أنت خيرٌ ، فهم عنده بُصَراءُ ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب " . قال الشيخ : " وهذا متكلَّفٌ جداً ؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ . فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] لأنَّ معناه : أم صَمَتُّم ، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ ؛ لأنَّ قولَه : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً لقولِه : " أفلا تُبْصِرون " . وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً ، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه :

4003 أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ ***

ف " أتمَّت " معادِلٌ للاسم ، فالتقديرُ : أم مُتِمًّا " قلت : وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه ؛ لأنه هو السابقُ به ، وكذا قولُه أيضاً : إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد " أم " إلاَّ وبعدها " لا " فيه نظرٌ ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون " لا " فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً .

[ قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ] . والعامَّة على " يُبين " مِنْ أبان ، والباقر " يَبين " بفتحِها مِنْ بان أي : ظهر .