اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٞ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (52)

قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } في أم هذه أقوال :

أحدها : أنها منقطعة{[49939]} ، فتقدر ب «بَلْ » التي لإضراب الانتقال ، وبالهمزة التي للإنكار .

والثاني : أنها بمعنى بل فقط{[49940]} ، كقوله :

4411 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رُوْنَقِ الضُّحَى *** وَصُورَتُهَا أَمْ أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ{[49941]}

أي بل أنت .

الثالث : أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى{[49942]} . قال أبو البقاء : «أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلة معادلة ؛ إذ المعنى أنا خير منه أم لا ؟ وأينا خير{[49943]} ؟ » وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما مَعْنيَانِ مختلفان ، فَإِنَّ الانقطاع يقتضي إضْراباً إما إبْطالاً ، وإِما انتقالا{[49944]} .

الرابع : أنها متصلة ، والمعادل محذوف ، تقديره : أَمْ تُبْصِرُونَ ؟ وهذا لا يجوز إلا إذا كانت «لا » بعد «أم » ، نحو : أتقوم أم لا ؟ أي أم لا تقوم ، وأزيد عندك أم لا ؟ أي أم لا هو عندك أما حذفه دون معادل فلا يجوز . وقد جاء حذف «أم » مع المعادل ، وهو قليل جداً ، قال الشاعر{[49945]} :

4412 دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِني لأَمْرِهَا *** سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا{[49946]} ؟

أي أم غيّ .

ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذه هي أم المعادلة ، أي أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يُبْصَر عنده وهو أنه خير من موسى{[49947]} .

قال : وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ؛ لأن المعنى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أمْ تُبْصِرُونَ ؟ إلا أنه وضع قوله : «أنا خير » موضع «تبصرون » لأنهم إذا قالوا : أنت خير فَهُمْ عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المُسَبَّب{[49948]} .

قال أبو حيان : وهذا متكلف جداً ، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق فإن كان المعادل جملة فعلية ، كان السابق جملة فعلية ، أو جملة إسمية يتقدر منها جملة فعلية ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] ؛ لأن معناه أو صمتُّم وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية لأن قَوْلَهُ : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً لقوله : أفَلا تُبْصِرُونَ ، وإن كان السابق اسماً كان المعادل اسماً أو جملة فعلية يتقدر منها اسم نحو قوله :

4413 اَمُخْدَجُ{[49949]} اليَدَيْنِ أَمْ أَتَمَّتِ ؟ *** . . .

«فأتمت » معادل للاسم والتقدير : أم مُتِمًّا ؟{[49950]} .

قال شهاب الدين : وهذا الذي رده على الزمخشري رده على سيبويه ، لأنه هو السابق به وكذا قوله أيضاً : إنه لا يحذف المعادل بعد «أم » وبعدها «لا » فيه نظر في تجويز سيبويه حذف المعادل دون لا فهو رد على سيبويه أيضاً{[49951]} .

قوله : «ولا يكاد يبين » هذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على الصلة وأن تكون مستأنفة وأن تكون حالاً{[49952]} . والعامة على يُبِينُ من أَبَانَ ، والباقون : يَبِينُ بفتح الياء من بَانَ أي ظَهَرَ{[49953]} .

فصل

قال أكثر المفسرين : «أم » هنا بمعنى «بل » وليس بحرف عطف{[49954]} . قال الفراء : الوقف على قوله أم وفيه إضمار مجاز( ه ) أفلا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ ؟ لكنه اكتفى بلفظ «أم » كما تقول لغيرك : «أَتَأْكُلُ أَمْ » أي أَتَأْكُلُ أَمْ لاَ تَأْكُلُ ؟ لكنك تقتصر على كلمة أم اقتصاراً{[49955]} .

قال أبو عُبَيْدَة : معناها بل أنا خير{[49956]} ، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله : أفلا تبصرون . ثم ابتدأ فقال : أم أنا خير ، يعنى بل أنا خير . وقال الباقون أم هذه متصلة ، لأن المعنى أفلا تُبْصرُونَ أَمْ تُبْصُرونَ ؟ إلا أنه وضع قوله : «أنا خير » موضع : «تبصرون » ، لأنهم إذا قالوا له : أََنْتَ خَيْرٌ فَهُمْ عِنْدَهُ بُصَراءُ{[49957]} .

قوله : { مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ } أي ضعيف حقير يعني موسى { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } أَيْ يُفْصِحُ لسانُهُ لرُتّةٍ{[49958]} كَانَتْ فِي لِسَانِهِ .

فإن قيل : أليس أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يُزيل الرُّتةَ عن لسانه بقوله : { واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي } [ طه : 27 ، 28 ] فأعطاه الله ذلك بقوله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] فكيف عابه فرعون بتلك الرُّتةِ ؟ ! .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن فرعون أراد بقوله : «ولا يكاد يبين » حجته التي تدل على صدقه ، ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام .

والثاني : أنه عابه بما كان عليه أولاً ، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام مكث عند فرعون زماناً طويلاً ، وكان في لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهد عليه من الرُّتةِ ؛ لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عَنْهُ{[49959]} .


[49939]:وهو قول أول للزمخشري في الكشاف 3/492 وانظر البيان 2/354.
[49940]:وهو قول أبي حيان في البحر 8/22 ناقلا أياه عن السدي وأبي عبيدة في المجاز 2/304.
[49941]:لم ينسب في البحر ولا في الدر، ونسب في الخصائص والمحتسب لابن جني إلى ذي الرمة وهو من الطويل وهو في ملحقات ديوانه 644 بلفظ "أو" بدل "لا" وعليه فلا شاهد، وقرن الشمس أعلاها وأولها عند طلوعها، ورونق الضحى أوله والشاهد: أن أم. على تلك الرواية ـ بمعنى بل فقط وهي رواية أبي حيان في البحر المحيط والسمين في الدر المصون ومشى المؤلف وراءهما. انظر البحر 8/22 والدر 4/791 على أن الرواية المشهورة "أو" وعليه ـ كما قلت ـ فلا شاهد. انظر الخصائص 2/458 ومعاني الفراء 1/72، والمحتسب 1/99 والإنصاف 478 وفتح القدير 4/559، والسراج المنير 3/567.
[49942]:وهو رأي أبي البقاء انظر التبيان 1140.
[49943]:المرجع السابق.
[49944]:قاله السمين في الدر المصون 4/792.
[49945]:انظر السابق وأيضا البحر المحيط 8/23.
[49946]:من الطويل لأبي ذؤيب. وهو من الأبيات المشهورة، ويروى: فلا أدري بدل فما أدري ولا اختلاف في المعنى. انظر ديوان الهذليين 1/71. والشاهد: حذف أم مع معادلها أو معطوفها وذلك لدلالة المقام عليه ولأنها متصلة. وانظر البحر المحيط 8/23 والدر المصون 4/792، ومغني اللبيب 13 و23 و628 والأشموني 3/16 والهمع 2/132. في الديوان "عصاني" بدل ّدعاني" وهو بعيد عن الشاهد. وانظر البيت أيضا في تأويل مشكل القرآن 166.
[49947]:انظر البحر 8/23.
[49948]:الكشاف 3/492 مع أن الزمخشري كما سبق قد جوز فيها وجه الانقطاع أيضا.
[49949]:المخدج: الناقص الخلق، ومخدج اليدين ناقص نمو اليدين. ويقال: إن هذه صفة رجل كان من الخوارج يؤلب أتباع الإمام علي كرم الله وجهه عليه سرا. والشاهد في تلك العبارة: أن أتمت وهي جملة فعلية في تقدير اسم كما قال أبو حيان وكما قدره أعلى. وفي هذا رد من أبي حيان على تقدير الزمخشري وانظر البحر 8/23، ولسان العرب "خدج" وكامل المبرد 3/263 وغريب الحديث 3/444 و445 والفائق في غريب الحديث للزمخشري 1/145.
[49950]:البحر المحيط 8/23.
[49951]:هذا بناء على صحة نقل كلام أبي حيان عن سيبويه في كون أم متصلة ومعادلة. وانظر الدر المصون 4/793.
[49952]:قال بهذا الإعراب السمين في الدر المصون 3/793.
[49953]:ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر 8/23 والسمين في المرجع السابق.
[49954]:ممن قال بذلك الزمخشري في الكشاف 3/492 وأبو عبيدة في مجاز القرآن كما سيأتي قوله والسدي كما نقله عنه الإمام القرطبي في الجامع 16/99 وأبو حيان في البحر 8/22. وانظر غريب القرآن 339 والفخر الرازي 27/218.
[49955]:الذي في معاني القرآن له 3/35: من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت رددته على قوله "أليس لي ملك مصر"؟
[49956]:مجاز القرآن 2/204.
[49957]:بتوضيح وتفصيل من الإمام الرازي 27/118.
[49958]:هي العجلة في الكلام وقلة الأناة وقيل غير ذلك. انظر اللسان (رتت) 1575.
[49959]:انظر الرازي 27/219.