القول في تأويل قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سأنزع عنهم فهم الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، قال : ثني محمد بن عبد الله بن بكر ، قال : سمعت ابن عيينة يقول في قول الله : سأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بغيرِ الحَقّ قال : يقول : أنزع عنهم فهم القرآن ، وأصرفهم عن أياتي .
وتأويل ابن عيينة هذا يدلّ على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم دون قوم موسى ، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون موسى عليه السلام .
وقال آخرون في ذلك : معناه : سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : سأصْرِفُ عَنْ أياتِيَ عن خلق السموات والأرض والاَيات فيها ، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته ، وهي أدلته وأعلامه على حقية ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله وغير ذلك من فرائضه ، والسموات والأرض ، وكلّ موجود من خلقه فمن آياته ، والقرآن أيضا من آياته . وقد عمّ بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحقّ ، وهم الذين حقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤْمنون ، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والأدّكار بها مصروفون لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك فهدوا للاعتبار به اتعظوا وأنابوا إلى الحقّ ، وذلك غير كائن منهم ، لأنه جلّ ثناؤه قال : وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فلا تبديل لكلمات الله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤمِنُوا بِها وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ .
يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء يتكبرون في الأرض بغير الحقّ . وتكبرهم فيها بغير الحقّ : تجبرهم فيها ، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله والإذعان لأمره ونهيه ، وهم لله عبيد يغذوهم بنعمته ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيا . كلّ آيَةٍ يقول : كلّ حجة لله على وحدانيته وربوبيته ، وكلّ دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره . لا يُؤْمِنُوا بِها يقول : لا يصدّقوا بتلك الاَية أنها دالة على ما هي فيه حجة ، ولكنهم يقولون : هي سحر وكذب . وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً يقول : وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب وصاروا إلى نعيم الأبد لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقا ، جهلاً منهم وحيرة . وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يقول : وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلوا وهلكوا . وقد بيّنا معنى الغيّ فيما مضى قبل بِما أغنى عن إعادته . يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً يقول : يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقا لصرف الله إياهم عن آياته وطبعه على قلوبهم ، فهم لا يفلحون ولا ينجحون . ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ يقول تعالى ذكره : صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها ، فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا عقوبة منا لهم على تكذيبهم بآياتنا ، وكَانُوا عَنْها غَافِلِينَ يقول : وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقية ما أمرناهم به ونهيناهم عنه ، غافلين لا يتفكّرون فيها ، لاهين عنها لا يعتبرون بها ، فحقّ عليهم حينئذ قول ربنا ، فعطبوا .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : الرّشْد فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين : الرّشْد بضم الراء وتسكين الشين . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة وبعض المكيين : «الرّشَد » بفتح الراء والشين .
ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه ، وفيه إذا فتحتا جميعا . فذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه : الصلاح ، كما قال الله : فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا بمعنى : صلاحا وكذلك كان يقرؤه هو ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه : الرّشَد في الدين ، كما قال جلّ ثناؤه : تُعَلّمَنِي مِمّا عَلّمْتَ رَشَدا بمعنى الاستقامة والصواب في الدين . وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل : السّقم والسّقَم ، والحُزْن والحَزَن ، وكذلك الرّشْد والرّشَد .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضة القراءة بهما في قراءة الأمصار متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب بها .
{ سأصرف عن آياتي } المنصوبة في الأفاق والأنفس . { الذين يتكبرون في الأرض } بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها . وقيل سأصرفهم عن إبطالها وان اجتهدوا ما فعل فرعون فعاد عليه باعلائها أو باهلاكهم . { بغير الحق } صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل ، أو حال من فاعله . { وإن يروا كل آية } منزلة أو معجزة . { لا يؤمنوا بها } لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول . { وان يروا سبيل الرُّشد لا يتخذوه سبيلا } لاستيلاء الشيطنة عليهم . وقرأ حمزة والكسائي " الرَّشَد " بفتحتين وقرئ " الرشاد " وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام ، { وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات ، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما .
المعنى سأمنع وأصد ، وقال سفيان بن عيينة : الآيات هنا كل كتاب منزل .
قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن فهمها وتصديقها ، وقال ابن جريج : الآيات العلامات المنصوبة الدالة على الوحدانية .
قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن النظر فيها والتفكير والاستدلال بها ، واللفظ يعم الوجهين ، والمتكبرون بغير حق في الأرض هم الكفرة ، والمعنى في هذه الآية سأجعل الصرف عن الآيات عقوبة للمتكبرين على تكبرهم ، وقوله { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } حتم من الله عز وجل على الطائفة التي قدر ألا يؤمنوا ، وقراءة الجمهور : «يرَوا » بفتح الياء قرأها ابن كثير وعاصم ونافع وأبو جعفر وشيبة وشبل وابن وثاب وطلحة بن مصرف وسائر السبعة ، وقرأها مضمومة الياء مالك بن دينار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «الرشد » ، وقرأ ابن عامر في بعض ما روي عنه وأبو البرهشم «الرُّشد » بضم الراء والشين وقرأ حمزة والكسائي على أن «الرُّشد » بضم الراء وسكون الشين «الرَّشد » بفتحهما الدين ، وأما قراءة ابن عامر بضمهما فأتبعت الضمة الضمة ، وقرأ ابن أبي عبلة «لا يتخذوها وتتخذوها » على تأنيث «السبيل » ، والسبيل تؤنث وتذكر ، وقوله { ذلك } إشارة إلى الصرف أي صرفنا إياهم وعقوبتنا لهم هي بكفرهم وتكذيبهم وغفلتهم عن النظر في الآيات والوقوف عند الحجج ، ويحتمل أن يكون ذلك خبر ابتداء تقديره : الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل تقديره فعلنا ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.