ثم كرر - سبحانه - التحذير من المن والأذى ، مناديا المؤمنين بأن يجتنبوا في صدقاتهم هاتين الرذيلتين ، مبينا أن الكلمة الطيبة للفقير خير من إعطائه مع إيذائه ، استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه المعاني وغيرها بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول :
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن . . . }
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 264 )
المعنى : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } بأن تقول للسائل كلاما جميلا طيبا تجبر به خاطره ، ويحفظ له كرامته " ومغفرة " لما وقع منه من إلحاف في السؤال ، وستر لحاله وصفح عنه ، { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } أي خير من صدقة يتبعها المتصدق أذى للمتصدق عليه .
لأن الكلمة الطيبة للسائل ، والعفو عنه فيما صدر منه ، كل ذلك يؤدي إلى رفع الدرجات عند الله ، وإلى تهذيب النفوس ، وتأليف القلوب وحفظ كرامة أولئك الذين مدوا أيديهم بالسؤال . أما الصدقة التي يتبعها الأذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدي إلى ذهاب ثوابها ، وإلى زيادة الآلام عند السائلين ولا سيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم ، وعلى صيانة ماء وجوههم ، فإن ألم الحرمان عند بعض الناس أقل أثرا في نفوسهم من آلام الصدقة المصحوبة بالأذى ، لأن ألم الحرمان يخففه الصبر الذي وراءه الفرج ، أما آلام الصدقة المصحوبة بالأذى لهم فإنها تصيب النفوس الكريمة بالجراح التي من العسير التئامها وشفاؤها .
قال القرطبي : روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكلمة الطيبة صدقة ، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " فعلى المسئول أن يتلقى السائل بالبشر والترحيب ، ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكوراً إن أعطى ومعذوراً إن منع . وقد قال بعض الحكماء : الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره .
وقوله : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها وللعطف عليها . وقوله : { وَمَغْفِرَةٌ } عطف عليه وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة إذ التقدير ومغفرة للسائل أو من الله وقوله : { خَيْرٌ } خبر عنهما وقوله { يَتْبَعُهَآ أَذًى } في محل جر صفة لصدقة .
ثم ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { والله غَنِيٌّ حَلِيم } أي والله - تعالى - غني عن إنفاق المنفقين وصدقات المتصدقين . وإنما أمرهم بهما لمصلحة تعود عليهم . أو غنى عن الصدقة المصحوبة بالأذى ففلا يقبلها . { حَلِيم } فلا يعجل بالعقوبة على مستحقها ، فهو - سبحانه - يمهل ولا يهمل .
والجملة الكريمة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب .
تخلُّص من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على المحاويج من الناس ، وهو الصدقات . ولم يتقدم ذكر للصدقة إلاّ أنّها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله ، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا } [ البقرة : 262 ] الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين ؛ فإنّ المنّ والأذى في الصدقة أكثر حُصولاً لكون الصدقة متعلّقة بأشخاص معيّنين ، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفِق .
فالمنّ على المتصدّق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفاً .
ومن فقرات الزمخشري في « الكَلِم النَّوابغ » : « طَعْمُ الآلاء أحْلى من المنّ . وهوَ أمَرُّ من الآلاء عند المنّ » الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شَجر مُر الورق ، والمنّ الأول شيء شِبْه العسل يقع كالنَّدَى على بعض شجر بادية سِينا وهو الذي في قوله تعالى : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] ، والمنّ الثاني تذكير المنَعم عليه بالنعمة .
والأذى الإساءة والضرّ القليل للمنعم عليه قال تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] ، والمراد به الأذى الصريح من المنعِم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنّه أعطاه ، أو أن يتكبّر عليه لأجل العطاء ، بله تعيِيره بالفقر ، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن . وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من « الإحياء » إلى أنّ المنّ له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته ، ثم تتفرّع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح . ومنبع الأذى أمران : كراهية المعطي إعطاءَ ماله ، وشدّةُ ذلك على نفسه ورؤيتُه أنّه خير من الفقير ، وكلاهما منشؤهُ الجهل ؛ فإنّ كراهية تسليم المال حمق لأنّ من بذل المال لطلب رضا الله والثواب فقد علم أنّ ما حصل له من بذل المال أشرف ممّا بذله ، وظنَه أنّه خير من الفقير جهل بِخطر الغنَى ، أي أنّ مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني .
ولما حذّر الله المتصدّق من أن يؤذي المتصدّق عليه عُلِم أنّ التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصلٌ بفحوى الخطاب لأنّه أوْلى بالنهي .
أوْسع اللَّهُ تعالى هذا المقام بيَاناً وترغيباً وزجراً بأساليب مختلفة وتفنّنات بديعة فنّبهنا بذلك إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعُونة .
وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها ، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص ، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه ، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده ، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية .
ولقد كان مقدار الإصابة والخطإ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها ، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعَوا إلاّ وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حَظاً من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعاً عظيماً من تشريعهم أو دعوتهم ، إلاّ أنّهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصِّر أو آمِل ومُدَبِّر ، غير أنّك لا تجد شريعة سدّدت السهم لهذا الغرض . وعرفت كيف تفرق بين المستحبّ فيه والمفتَرض . ومثل هذه الشريعة المباركة ، فإنّها قد تصرّفت في نظام الثروة العامة تصرّفاً عجيباً أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة ، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مؤونة حاجته ، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفاعه به قبل كل أحد .
فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب بالأمن على ماله من أن ينتزعه منه مُنتزع إذ قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع : « إن دماءَكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا » سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر ، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها .
وقد أتْبعت إعلان هذه الثقةِ بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلّقة بالمعاملات والتوثيقات ، كمشروعية الرهن في السلف والتوثّق بالإشهاد كما تُصرّح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصاً واستنباطاً .
ثم أشارت إلى أنّ من مقاصدها ألاّ تبقى الأموال متنقّلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَيْلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم } [ الحشر : 7 ] ، فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالاً أي كيلا يكون المال دُولة . والدُّولة ما يتداوله الناس من المال ، أي شرْعنا صرفه لمن سمّيناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه ، لينال الفقراءُ منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مُدالاً بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المِرْبَاع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة .
ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعاً منظّماً فجعلت منه انتزاعاً جبرياً بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته . فأما الذي في حياته فهو الصدقات الواجبة ، ومنها الزكاة ، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها . وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم وجه تشريعها بقوله لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن : « إن الله فرض عليهم زكاة تُؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم » وجعل توزيع ما يتحصّل من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم ، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء ، غير مهينين ولا مهددّين بالمنع والقساوة . والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا العطاء بأفضل ما وُعد به المحسنون ، من تسميته قرضاً لله تعالى ، ومن توفير ثوابه ، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها .
ويلحق بهذا النوع أخذ الخمس من الغنيمة مع أنّها حق المحاربين ، فانتزع منهم ذلك وقال لهم : { واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فإنّ للَّه خمسه وللرسول } إلى قوله { إن كنتم آمنتم بالله } [ الأنفال : 41 ] فحَرضهم على الرضا بذلك ، ولا شك أنّه انتزعه من أيدي الذين اكتسبوه بسيوفهم ورماحهم . وكذلك يلحق به النفقات الواجبة غير نفقة الزوجة لأنّها غير منظور فيها إلى الانتزاع إذ هي في مقابلة تألُّف العائلة ، ولا نفقةِ الأولاد كذلك لأنّ الداعي إليها جبلِيّ . أما نفقة غير البنين عند من يوجب نفقة القرابة فهي من قسم الانتزاع الواجب ، ومن الانتزاع الواجب الكفارات في حنث اليمين ، وفطر رمضان ، والظهار ، والإيلاء ، وجزاء الصيد . فهذا توزيع بعض مال الحي في حياته .
وأما توزيع المال بعد وفاة صاحبه فذلك ببيان فرائض الإرث على وجه لا يقبل الزيادة والنقصان . وقد كان العرب يعطون أموالهم لمن يحبّون من أجنبي أو قريب كما قدمنا بيانه في قوله : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } ( 180 ) ، وكان بعض الأمم يجعل الإرث للأكبر .
وجعل توزيع هذه الفرائض على وجه الرحمة بالناس أصحاب الأموال ، فلم تعط أموالهم إلاّ لأقرب الناس إليهم ، وكان توزيعه بحسب القرب كما هو معروف في مسائل الحجب من الفرائض ، وبحسب الأحوجية إلى المال ، كتفضيل الذكر على الأنثى لأنّه يعول غيره والأنثى يعولها غيرها . والتفت في هذا الباب إلى أصحاب الأموال فترك لهم حقّ التصرّف في ثلث أموالهم يعينون من يأخذه بعد موتهم على شرط ألاّ يكون وارثاً ، حتى لا يتوسلوا بذلك إلى تنفيل وارث على غيره .
وجعلت الشريعة من الانتزاع انتزاعاً مندوباً إليه غير واجب ، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مراباة وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة .
وجملة { قول معروف } إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً . وتنكير { قول معروف } للتقليل ، أي أقَلُّ قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى . والمعروف هو الذي يعرفه الناس ، أي لا ينكرونه . فالمرَاد به القول الحسن وهو ضدّ الأذى .
والمغفرة هنا يراد بها التجاوز عن الإساءة أي تجاوز المتصدق عن الملحّ أو الجافي في سؤاله إلحاحَهُ أو جفاءهُ مثل الذي يسأل فيقول : أعطني حقّ الله الذي عندك أو نحو ذلك ، ويراد بها أيضاً تجاوز الله تعالى عن الذنوب بسبب تلك الصدقة إذا كان معها قول معروف ، وفي هذا تعْريض بأنّ الأذى يوشك أنْ يبطل ثواب الصدقة .
وقوله : { والله غني حليم } تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلّق بهما المؤمنون وهما : الغِنَى الراجع إليه الترفّع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شحّ نفس المعطي ، والحلمُ الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العُفاة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قول معروف}: قول حسن، يعني دعاء الرجل لأخيه المسلم إذا جاء وهو فقير يسأله فلا يعطيه شيئا يدعو بالخير له. {ومغفرة}، وتجاوز عنه. {خير من صدقة} يعطيه إياها {يتبعها أذى}: المن. {والله غني} عما عندكم من الصدقة، {حليم} حين لا يعجل بالعقوبة على من يمن بالصدقة ويؤذي فيها المعطي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}: قول جميل، ودعاء الرجل لأخيه المسلم. {وَمَغْفِرَةٌ}: وستر منه عليه لما علم من خلته وسوء حالته، خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه يتبعها أذى، يعني يشتكيه عليها ويؤذيه بسببها... أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منّا وأذى.
{غَنِيّ حَلِيمٌ}: والله غنيّ عما يتصدقون به، حليم حين لا يعجل بالعقوبة على من يمنّ بصدقته منكم، ويؤذي فيها من يتصدّق بها عليه.
عن ابن عباس: الغنيّ: الذي كمل في غناه. والحليم: الذي قد كمل في حلمه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى}...وقيل: {قول معروف} يستغفر الله بذنوبه في السر {ومغفرة} له يغفر له، ويتجاوز عن مظلمته، وقيل: {قول معروف} الأمر بالمعروف {خير} ثوابا عند الله {من صدقة} فيها أذى ومن.
فإن قيل: كيف جمع بين قول المعروف والمغفرة وبين الأذى والمن، فقال: {خير من} كذا، وأحدهما خير، والآخر شر، وإنما يفعل هذا إن كانا جميعا خيرين؟ فيقال: أيهما أخير؟ قيل: معناه، والله أعلم، هذا خير لكم من ذلك، وهو كقوله: {قل ما عند الله من خير من اللهو ومن التجارة} [الجمعة: 11] في دنياكم، وإن لم يكن اللهو والتجارة من جنس ما عند الله. فعلى ذلك الأول. ويحتمل أن تكون الآية على الابتداء لا على الجمع؛ هذا خير، وهذا شر... ووجه ذلك أن الصدقة قربة، وهي خير، فإذا أتبعها الأذى أبطلها، فيكون {قول معروف} أي رد جميل للسائل خير من إجابة في البذل ثم الرد بالأذى لأن هذا يبقى، وإن كان لا ينتفع به الآخر، والصدقة لا، وإن كان ينتفع بها الفقير، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}... يحتمل وجهين: أحدهما: أن يدني إن أعطى. والثاني: يدعو إن منع...
{وَمَغْفِرَةٌ} فيها أربعة تأويلات: أحدها: يعني العفو عن أذى السائل. والثاني: يعني بالمغفرة السلامة من المعصية. والثالث: أنه ترك الصدقة والمنع منها، قاله ابن بحر. والرابع: هو أن يستر عليه فقره ولا يفضحه به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
القول المعروف معناه ما كان حسنا جميلا لا وجه فيه من وجوه القبح، وهو أن تقول للسائل قولا معروفا عليه حسنا من غير صدقة تعطيها إياه...
وقال الحسن: وهو قول حسن لاعتراف العقل به. وتقبله إياه دون إنكاره له...
وقوله {والله غني حليم} فالغني هو الحي الذي ليس بمحتاج، ومعناه ههنا غني عن كل شيء من صدقة وغيرها. وإنما دعاكم إليها لينفعكم بها.
وقال الرماني: الغني الواسع الملك فالله غني لأنه مالك لجميع الاشياء لأنه قادر عليها لا يتعذر عليه شيء منها. والغنى ضد الحاجة...
والحلم: الامهال بتأخير العقوبة للإنابة، ولو وقع موقع حليم حميد أو عليم، لما حسن لأنه تعالى لما نهاهم أن يتبعوا الصدقة بالمن، بين أنهم إن خالفوا ذلك فهو غني عن طاعتهم حليم. في أن لا يعاجلهم بالعقوبة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني قولٌ -للفقير المجرد- يرد به من تعرض له بإظهار العذر، خير وأتم من صدقة المعجَبِ بفعله، وما يتبع من إلزام المنة فيه. ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجُرْمك، وغفران الله لك على تلك القالة -خيرٌ مِنْ صَدَقَةٍ بالمنِّ مشوبة، وبالأذى مصحوبة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها...
قال القاضي أبو محمد:... وإنما يكون المقدر كالظاهر، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج. ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوماً بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال اللهم غفراً، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقال النقاش: يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: القول بالمعروف يتوجه تارة إلى السائل إن كانت الصدقة عليه، وتارة يتوجه إلى المصلحة العامة، كما إذا هاجم البلد عدو وأرادوا جمع المال للاستعانة على دفعه فمن لم يكن له مال يمكنه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث على العمل وينشط العامل، ويبعث عزيمة الباذل، والمغفرة أن تغضي عن نسبة التقصير في الإنفاق إليك وان تظهر في هيأة لا ينفر منها المحتاج ولا يتألم من فقره أمامك. والمعنى أن مقابلة المحتاج بكلام يسر وهيأة ترضي خير من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة، ولا فرق في المحتاج بين أن يكون فردا أو جماعة فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه وإظهار استهجانه وبيان التقصير فيه أو تشكي الناس في فائدته لا توازي هذه المساعدة: إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب له المساعدة والإغضاء عن التقصير الذي ربما يكون من العاملين فيه. فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك خير من شيء من المال ترضخ به مع قول السوء وفعل الأذى. ومعنى هذه الخيرية أنه أنفع وأكثر فائدة لا أنه يقوم مقام البذل ويغني عنه. فمن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغضاء لهم ولا شك أن السلم والولاء، خير من العداوة والبغضاء، وإن أضمن شيء لمصلحة الأمة وأقوى معزز لها هو أن يكون كل واحد من أفرادها في عين الآخر وقلبه في مقام المعين له وإن لم يعنه بالفعل. وأقول: إن هذا الآية مقررة لقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، التي هي من أعظم قواعد الشريعة، ومبينة أن الخير لا يكون طريقا ووسيلة إلى الشر... ومرشدة إلى وجوب العناية بجعل العمل الصالح خاليا من الشوائب التي تفسده وتذهب بفائدته كلها أو بعضها، وإلى أنه ينبغي لمن عجز عن إحسان عمل من أعمال البر وجعله خالصا نقيا أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى غايته حتى لا يحرم من فائدته بالمرة، كمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤذي فحث على الصدقة أو جبر قلب الفقير بقول المعروف. ومن البدهي أن أعمال البر والخير لا يغني بعضها عن بعض، فكيف يغني ترك الشر واتقاء المفاسد عن عمل الخير والقيام بالمصالح... {والله غني} بذاته وبما له من ملك السماوات والأرض عن صدقة عباده، فلا يأمر الأغنياء بالبذل في سبيله لحاجة به، وإنما يريد أن يطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شؤونهم الاجتماعية، ليكونوا أعزاء، بعضهم لبعض أولياء. والمن والأذى ينافيان ذلك. فهو غني عن قبول صدقة يتبعها أذى لأنه لا يقبل إلا الطيبات... {حليم}... قال الأستاذ الإمام: يطلق الحلم ويراد به هذا اللازم من لوازمه، أي الإمهال وعدم المعالجة بالمؤاخذة. وقد يراد به لازم آخر وهو الإغضاء والعفو وليس بمراد، لأنه لو أريد لكان تحريضا على الأذى ولكل مقال مقام بعينه. فالأول يطلق في مقابل العجول الطائش والثاني في مقابل الغضوب المنتقم. وفي الاسمين الكريمين تنفيس لكرب الفقراء وتعزية لهم وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني المغني، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم أن يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم وعدم معالجتهم بالعقاب على كفرهم بنعمته عليهم بالمال فإنه يوشك أن يسلبها منهم في يوم من الأيام... ثم إنه لما كانت النفوس المولعة بذكر ما يصدر عنها من الإحسان للتمدح والفخر، وكان ذلك مطية الرياء، وطريق المن والإيذاء ّ لاسيما إذا آنس المصدق تقصيرا في شكره على صدقته أو احتقارا لها، فإنه لا يكاد يملك حينئذ نفسه ويكفها عن المن أو الأذى كما تقدم عن الأستاذ الإمام كان من الهدى القويم ومقتضى البلاغة أن تؤتى في النهي عن المن والأذى والرياء بعبارات مختلفة لأجل التأثير في التنفير عن ذلك والحمل على تركه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرما، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، {والله غني} عنها، ومع هذا فهو {حليم} على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتوكيدا للمعنى الذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل. توكيدا لأن الغرض هو تهذيب النفوس، وترضية القلوب، وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله.. يقول في الآية التالية: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. والله غني حليم}.. فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها! وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح. كلمة طيبة تضمد جراح القلوب، وتفعمها بالرضى والبشاشة. ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة. فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة: من تهذيب النفوس وتأليف القلوب.
ولأن الصدقة ليست تفضلا من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله.. عقب على هذا بقوله: {والله غني حليم}... غني عن الصدقة المؤذية. حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعجلهم بالعقاب ولا يبادرهم بالإيذاء؛ وهو معطيهم كل شيء، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء -فليتعلم عباده من حلمه- سبحانه -فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزءا مما أعطاه الله لهم. حين لا يروقهم منهم أمر، أولا ينالهم منهم شكر! وما يزال هذا القرآن يذكر الناس بصفة الله سبحانه ليتأدبوا منها بما يطيقون؛ وما يزال أدب المسلم تطلعا لصفة ربه، وارتقاء في مصاعدها، حتى ينال منها ما هو مقسوم له، مما تطيقه طبيعته...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تخلُّص من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على المحاويج من الناس، وهو الصدقات. ولم يتقدم ذكر للصدقة إلاّ أنّها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا} [البقرة: 262] الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين؛ فإنّ المنّ والأذى في الصدقة أكثر حُصولاً لكون الصدقة متعلّقة بأشخاص معيّنين، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفِق...
ولما حذّر الله المتصدّق من أن يؤذي المتصدّق عليه عُلِم أنّ التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصلٌ بفحوى الخطاب لأنّه أوْلى بالنهي. أوْسع اللَّهُ تعالى هذا المقام بيَاناً وترغيباً وزجراً بأساليب مختلفة وتفنّنات بديعة فنّبهنا بذلك إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعُونة. وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية...
ولقد كان مقدار الإصابة والخطأ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعَوا إلاّ وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حَظاً من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعاً عظيماً من تشريعهم أو دعوتهم، إلاّ أنّهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصِّر أو آمِل ومُدَبِّر، غير أنّك لا تجد شريعة سدّدت السهم لهذا الغرض. وعرفت كيف تفرق بين المستحبّ فيه والمفتَرض. مثل هذه الشريعة المباركة، فإنّها قد تصرّفت في نظام الثروة العامة تصرّفاً عجيباً أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مؤونة حاجته، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفاعه به قبل كل أحد. فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب بالأمن على ماله من أن ينتزعه منه مُنتزع إذ قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: « إن دماءَكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها...
وقد أتْبعت إعلان هذه الثقةِ بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلّقة بالمعاملات والتوثيقات، كمشروعية الرهن في السلف والتوثّق بالإشهاد كما تُصرّح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصاً واستنباطاً. ثم أشارت إلى أنّ من مقاصدها ألاّ تبقى الأموال متنقّلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَيْلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7]، فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالاً أي كيلا يكون المال دُولة. والدُّولة ما يتداوله الناس من المال، أي شرْعنا صرفه لمن سمّيناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه، لينال الفقراءُ منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مُدالاً بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المِرْبَاع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة...
ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعاً منظّماً فجعلت منه انتزاعاً جبرياً بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته. فأما الذي في حياته فهو الصدقات الواجبة، ومنها الزكاة، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم وجه تشريعها بقوله لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن: « إن الله فرض عليهم زكاة تُؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم» وجعل توزيع ما يتحصّل من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء، غير مهينين ولا مهددّين بالمنع والقساوة. والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا العطاء بأفضل ما وُعد به المحسنون، من تسميته قرضاً لله تعالى، ومن توفير ثوابه، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها... وجعلت الشريعة من الانتزاع انتزاعاً مندوباً إليه غير واجب، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مراباة وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة...
وقوله: {والله غني حليم} تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلّق بهما المؤمنون وهما: الغِنَى الراجع إليه الترفّع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شحّ نفس المعطي، والحلمُ الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العُفاة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه منزلة قول المعروف، وكيف يذهب الأذى بخير الصدقة الفردية، وأن الحرمان فيها مع قول الخير خير من الصدقة مع الأذى بالمن أو غيره، وأن ألم الحرمان أقل من أذى القول؛ لأنه أذى يصيب النفس بالجراح، وجراح النفس ليس لها التئام، أما ألم الحرمان فيذهبه الصبر، ووراء الصبر الفرج القريب، وإن الله مع الصابرين...
ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق". ولقد قال بعض الحكماء: (الق صاحب الحاجة بالبشر، فإن عدمت شكره لم تعدم عذره)...
و قد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى: [والله غني حليم] لإثبات أن الذين يعطون إنما يقصدون وجه الله بعطائهم لينفعوا عباده، فإذا لم يقصدوا وجهه تبارك وتعالى، ويطلبوا رضوانه، فإنه غني عنهم، وهو بغناه الذي يعلو فوق كل تقدير يستطيع أن يجعل الفقير غنيا يعطي، والغني فقيرا يسأل، فالمال مال الله، وهو غاد ورائح، والله سبحانه وتعالى حليم، وعلى الناس أن يتخلقوا بأخلاق الله تعالى، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فلا يصح أن يدفعهم حمقهم لأن يقولوا للفقير ما يؤلم، أو للقائم بالمصلحة العامة التي أنفقوا في سبيلها ما يثبط همته، وينهنه من عزيمته. وفي ذكر هذا الوصف الكريم في هذا المقام إشعار بأن المن والأذى ذنب كبير يستحق العقاب، ولكن لحلم الله تعالى، ولأن رحمته سبقت عذابه أمهل ولم يهمل...
ما معنى {قول معروف}؟ إننا في العادة نجد أن المعروف مقابل للمنكر، كأن الأمر الخير أمر متعارف عليه بالسجية، وكأن المتعارف عليه دائما من جنس الجمال ومن جنس الخير، أما الأمر الذي تنكره النفس فمن جنس الشر وجنس القبح. ولذلك يقول الحق: {قول معروف} فكأن من شأن الجمال ومن شأن الحسن أن يكون معروفا، ومن شأن النقيض أن يكون منكرا، إذن فالقول المعروف هو أن ترد السائل الرد الجميل بحيث لا تمتلئ نفسه بالحفيظة عليك، وبحيث لا توبّخه لأنه سألك، وإذا كان السائل قد تجهّم عليك تجهم المحتاج فاغفر له ذلك... وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع المعاصي التي تغضب الله، ويحلم الحق عليك، ويغفرها لك ولا يعذبك بها، فإذا ما صنع إنسان معك شيئا فكن أيضا صاحب قول معروف ومغفرة وحلم؛
إن الحق سبحانه يقول لنا: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}؟ إننا جميعا نحب أن يغفر الله لنا، ولذلك يجب أن نغفر لغيرنا وخصوصا للمحتاج.
والحق حين يقول: {والله غني حليم} ففي ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقير، وكأنه يقول له: إنما حرمت نفسك أيها القادر من أجر الله. إنك أيها القادر حين تحرم فقيراً، فأنت المحروم؛ لأن الله غني عنك، وهو سبحانه يقول: {هاأنتم هؤلاء تُدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم 38} (سورة محمد)...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
1 تبيّن هذه الآية منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الاجتماعية وكرامتهم، وترى أن أعمال الذين يسعون في حفظ رؤوس الأموال الإنسانية، ويعاملون المحتاجين باللطف ويقدّمون لهم التوجيه اللازم، ولا يفشون أسرارهم، أفضل وأرفع من إنفاق أُولئك الأنانيّين ذوي النظرة الضيّقة الذين إذا قدّموا عوناً صغيراً يتبعونه تجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصيّاتهم. في الحقيقة إنّ أمثال هؤلاء الأشخاص ضررهم أكثر من نفعهم، فهم إذا أعطوا ثروة عرضوا ثروات للإبادة والضياع. يتّضح ممّا قلناه إنّ لتعبير {قول معروف} مفهوماً واسعاً يشمل كلّ أنواع القول الطيّب والتسلية والتعزية والإرشاد. وذهب بعضهم إلى أن المراد هو الأمر بالمعروف ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع الآية ظاهراً...
إن العبارات القصيرة التي تأتي في ختام الآيات عادةً وتورد بعض صفات الله تعالى ترتبط حتماً بمضمون الآية نفسها. وعلى هذا فمن الممكن أن يكون المقصود من {والله غنيّ حليم} هو: أنّ الإنسان ظالم بالطبع، ولذلك فإنّه إذا نال منصباً وحصل ثروةً حسِب نفسه غنياً ولم يعد بحاجة إلى الآخرين، وقد تحدو به هذه الحالة إلى استعمال الخشونة والتهجّم ضدّ المحرومين والمحتاجين. لذلك يقول القرآن إنّ الغنيّ بذاته هو الله، فالله هو وحده الغنيّ الذي لا يحتاج شيئاً، أمّا إحساس البشر بأنّه غنيّ فسراب خادع لا ينبغي أن يؤدي إلى الطغيان والتعالي على الفقراء...