وبعد هذه البشارات الكريمة ، والتوجيهات الحكيمة للمؤمنين . . ساق - سبحانه - أنواعا من الأدلة الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ، فقال - تعالى - :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار . . . } .
المراد بالآيات فى قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ . . } العلامات الدالة دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته .
أى : ومن آياته على وحدانيته وقدرته - تعالى - وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وجود الليل والنهار والشمس والقمر بتلك الطريقة البديعة ، حيث إن الجميع يسير بنظام محكم ، ويؤدى وظيفته أداء دقيقا . كما قال - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وقوله - تعالى - { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ . . . } نهى عن السجود لغيره - تعالى - وأمر بالسجود له وحده .
أى : لا تسجدوا - أيها الناس - للشمس ولا للقمر ، لأنهما - كغيرهما - من جملة مخلوقات الله - تعالى - ، واجعلوا طاعتكم وعبادتكم لله الذى خلق كل شئ فى هذا الكون ، إن كنتم حقا تريدون أن تكون عبادتكم مقبولة عنده - عز وجل - .
فالآية الكريمة تقيم الأدلة على وجوب إخلاص العبادة لله - عز وجل - وتنهى عن عبادة غيره - تعالى - .
قال الجمل : هذا رد على قوم عبدوا الشمس والقمر ، وإنما تعرض للأربعة مع أنهم لم يعبدوا الليل والنهار ، للإِيذان بكمال سقوط الشمس والقمر عن رتبة السجودية لهما ، بنظمها فى المخلوقية فى سلك الأعراض التى لا قيام لها بذاتها ، وهذا هو السر فى نظم الكل فى سلك آياته .
وإنما عبر عن الأربع بضمير الإِناث - مع أن فيه ثلاثة مذكرة ، والعادة تغليب المذكر على المؤنث - لأنه لما قال : ومن آياته ، فنظم الأربعة فى سلك الآيات ، صار كل واحد منهما آية بعبر عنها بضمير الإِناث فى قوله { خَلَقَهُنَّ } .
ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر { الليل والنهار } ، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما ، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما . ثم قال تعالى : { لا تسجدوا } لهذه المخلوقات وإن كانت تنفعكم ، لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما ، فهو الذي ينبغي أن يسجد له . والضمير في : { خلقهن } قالت فرقة : هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها . وقالت فرقة : الضمير عائد على الشمس والقمر ، والاثنان جمع ، وجمع ما لا يعقل يؤنث ، فلذلك قال : { خلقهن } .
قال القاضي أبو محمد : ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام ، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً .
وقالت فرقة : هو عائد على الأربعة المذكورة ، وشأن ضمير ما لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة أن يجيء هكذا ، فإذا زاد أفرد مؤنثاً ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ومنه : { إن عدة الشهور }{[10083]} ، ومنه قول حسان بن ثابت :
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما{[10084]}
ولا عيب فينا غير أن سيوفنا . . . بها من قراع الدارعين فلول{[10085]}
عطف على جملة { قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } [ فصلت : 9 ] الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية ، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالاً في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذواتتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات ، فابتدىء ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار ، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر ، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله : { ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة } [ فصلت : 39 ] .
ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة } إلى قوله : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } [ فصلت : 13 34 ] إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله : { أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض } [ فصلت : 9 ] .
والآيات : الدلائل ، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده .
واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى ، فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية . وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 164 ) { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } } .
والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة ، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله : { فقضاهن سبع سموات } [ فصلت : 12 ] ، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس ، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروببٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول ، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله : { فقضاهن سَبْعَ سموات } توفيراً للمعاني .
ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام ، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام ( 76 ) في قوله : { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي } الآيات ، ثم ظهر هذا الدين في سبأ ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل . ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر ، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا : ( لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر ) اهـ . ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب . وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه ( شَمس ) وبه سموا ( عبدَ شمس ) ، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة ، قالت مَيَّة بنتُ أم عتبة :
تروَّحْنَا من اللَّعْبَاء عَصْراً *** فأعْجَلْنا الإِلهةَ أن تؤوبا
وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ .
وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر .
وفي « تلخيص التفسير » للكواشي : ( وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة ) وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب ، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر . وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم : صَبَأَ ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابىء ، فإذا لم يكن النهي في قوله : { لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسسِ ولاَ للقَمَرِ } نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر ، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما .
ووقوع قوله : { واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ } بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي ، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب ، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي :
تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل
فكأنه قيل : لا تسجدوا إلا لله ، أي دون الشمس والقمر .
فجملة { لا تَسْجدوا للشَّمس } إلى قوله : { تَعْبُدُونَ } معترضة بين جملة { وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ } ، وبين جملة { فَإنْ استَكْبَرُوا } [ فصلت : 38 ] . وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة ، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب : السجود عند قوله تعالى : { إن كنتم إيَّاهُ تعبدون } وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وروي عن الشافعي . وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابنُ وهب : هي عند قوله : { وَهُمْ لا يَسْأمُونَ } [ فصلت : 38 ] ، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب .