و { إِن } هنا نافية بمعنى ما النافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه .
أى : وما أحد من أهل الكتاب . وحذف أحد لأنه ملحوظ فى كل نفى يدخله الاستثناء . نحو : ما قام إلا زيد . أى ما قام أحد إلا زيد .
وللمفسرين فى تفسير هذه الآية اتجاهان :
الأول : أن الضمير فى قوله { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى عيسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى : وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن بعيسى - عند نزوله فى آخر الزمان - حق الإِيمان ، { قَبْلَ مَوْتِهِ } أى : قيل موت عيسى ، { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ } عيسى - عليه السلام - { عَلَيْهِمْ } أى : على أهل الكتاب { شَهِيداً } فيشهد عليهم بأنه قد أمرهم بعباده الله وحده ، وأنه قد نهاهم عن الإِشراك معه آلهة أخرى .
وقد انتصر لهذا الاتجاه كثير من المفسرين وعلى رأسهم شيخهم ابن جرير . فقد قال - بعد سرد الأقوال فى الآية - : وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال . تأويل ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى .
وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير بقوله : ولا شك أن الذى قاله ابن جرير هو الصحيح . لأن المقصود من سياق الآيات ، بطلان ما زعمته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وبطلان تسليم من سلم لهم من النصارى الجهالة ذلك . فقد أخبر الله - تعالى أن الأمر لم يكن كذلك ، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك . ثم إن الله - تعالى - رفع إليه عيسى ، وإنه باق حى ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة .
ثم عقد ابن كثير فصلا عنونه بقوله : ذكر الأحاديث الواردة فى نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء فى آخر الزمان قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك به .
ثم ساق ابن كثير جملة من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها " .
ثم يقول أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } .
أما الاتجاه الثانى : فيرى أصحابه أن الضمير فى قوله { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى الكتابى المدلول عليه بقوله : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب } وعليه يكون المعنى :
وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته أى قبل موت هذا الكتابى ، لأنه عند ساعة الاحتضار يتجلى له الحق ، ويتبين له صحة ما كان ينكره ويجحده فيؤمن بعيسى - عليه السلام - ويشهد بأنه عبد الله ورسوله ، وأن الله واحد لا شريك له ، ولكن هذا الإِيمان لا ينفعه ، لأنه جاء فى وقت الغرغرة ، وهو وقت لا ينفع فيه الإِيمان ، لانقطاع التكلي فيه .
قالوا : ويؤيد هذا التأويل قراءة أبى : { إلا ليؤمنن به قبل موتهم } - بضم النون وبميم الجمع - .
وقد صدر صاحب الكشاف كلامه بذكر هذا التأويل فقال ما ملخصه : والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى . وبأنه عبد الله ورسوله . يعنى : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه .
فإن قلت : ما فائدة الإِخبار بعيسى قبل موتهم ؟ قلت فائدته الوعدي ، وليكون عملهم بأنهم لا بد لهم من الإِيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم ، بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإِيمان به فى وقت الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم .
وقيل : الضميران لعيسى بمعنى : وإن منهم أحد إلا ليؤمننن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون فى زمان نزوله .
والذى نراه أولى أنه لا تعارض بين التأويلين . فإن كلا منهما حق فى ذاته .
فكل كتابى عندما تحضره الوفاة يعلم أن عيسى كان صادقا فى نبوته ، وأنه عبد الله ، وأنه قد دعا الناس إلى عبادة الله وحده . وكذلك كل كتابى يشهد نزول عيسى فى آخر الزمان سيؤمن به ويتبعه ويشهد بأنه صادق فيما بلغه عن ربه .
وقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } اختلف المتأولون في معنى الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم : الضمير في { موته } راجع إلى عيسى ، والمعنى أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن سائر البشر ، وترجع الأديان كلها واحداً ، وقال مجاهد وابن عباس أيضاً وغيرهما : الضمير في { به } لعيسى وفي { موته } للكتابي الذي تضمنه قوله { وإن من أهل الكتاب } التقدير : وإن من أهل الكتاب أحد{[4368]} ، قالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله ، ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت ، فهو إيمان لا ينفعه ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة ، وقال هذا القول عكرمة والضحاك والحسن بن أبي الحسن أيضاً ، وقال عكرمة أيضاً : الضمير في { به } لمحمد عليه السلام ، و { قبل موته } للكتابي ، قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت ، وفي مصحف أبي بن كعب «قبل موتهم » ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي ، وقرأ الفياض بن غزوان «وإنّ من أهل الكتاب » بتشديد «إن » والضمير المستتر في يكون هو لعيسى عليه السلام في جل الأقوال ، ولمحمد عليه السلام في قول عكرمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن}: وما من أهل الكتاب، يعني اليهود، إلا ليؤمنن {به}: بعيسى صلى الله عليه وسلم، {قبل موته} أنه نبي رسول قبل موت اليهودي، يعني عند موته، لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وتقول: يا عدو الله، إن المسيح الذي كذبتم به، هو عبد الله ورسوله حقا، فيؤمن به ولا ينفعه، ويؤمن به من كان منهم حيا إذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم... ثم قال تعالى: {ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا}: أنه قد بلغهم الرسالة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ" يعني بعيسى "قَبْلَ مَوْتِهِ": قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدّقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابي إذا عاين علم الحقّ من الباطل، لأن كلّ من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحقّ من الباطل في دينه. وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي.
وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جلّ ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة، فلو كان كلّ كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم، وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغ مسلم، كان ميراثه مصروفا حيث يصرف مال المسلم، يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره، لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد وبجميع الرسل وذلك أن عيسى صلوات الله عليه جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به مصدّق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله، كما أن المؤمن بمحمد مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله، فغير جائز أن يكون مؤمنا بعيسى من كان بمحمد مكذّبا.
فإن ظنّ ظانّ أن معنى إيمان اليهوديّ بعيسى، الذي ذكره الله في قوله: "وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ "إنما هو إقراره بأنه لله نبيّ مبعوث دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله، فقد ظنّ خطأ. وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبا إلى الإقرار بنبوّة نبيّ من كان له مكذّبا في بعض ما جاء به من وحي الله وتنزيله، بل غير جائز أن يكون منسوبا إلا الإقرار بنبوةّ أحد من أنبياء الله لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمته من عند الله مكذب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين عباد الله. وإذ كان ذلك كذلك، كان في إجماع الجميع من أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه وما جاء به من عند الله، محكوم له بحكم المسألة التي كان عليها أيام حياته، غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته، أدلّ الدليل على أن معنى قول الله: "وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" إنما معناه: إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاصّ من أهل الكتاب، ومعنىّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله، كالذي:
حدثني بشر بن معاذ، قال: ثني يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأنْبِياءُ إخْوَةٌ لِعَلاّتٍ أُمّهاتُهُمْ شَتّى وَديِنُهُمْ وَاحِدٌ، وإنّي أوْلى النّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيّ. وَإنّهُ نازِلٌ، فإذَا رأيْتُمُوهُ فاعْرِفُوهُ، فإنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ وَالبَياضِ، سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بينَ مُمَصّرَتَيْنِ، فَيَدُقّ الصّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الجزْيَةَ، وَيُفِيضُ المَالُ، وَيُقاتِلِ النّاسَ على الإسْلامِ حتى يُهْلِكَ اللّهُ فِي زَمانِهِ المِلَلَ كُلّها غيرَ الإسْلامِ، ويُهْلِكُ اللّهُ فِي زَمانِهِ مَسِيحَ الضّلالَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ، وَتَقَعُ الأمَنَةُ فِي الأرْضِ فِي زَمانِهِ حتى تَرْتَعَ الأُسُودُ معَ الإبِلِ والنّمُورُ مَعَ البَقَرِ وَالذّئابُ مَعَ الغَنمِ، وَتَلْعَبُ الغِلْمانُ وَالصبْيانُ بالحَيّاتِ لا يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا، ثُمّ يَلْبَثُ فِي الأرْضِ ما شاء الله» وربما قال: «أربعين سنة، ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه».
وأما الذي قال: عني بقوله: "لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ": ليؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي، فمما لا وجه له مفهوم لأنه مع فساده من الوجه الذي دللّنا على فساد قول من قال: عنى به: ليؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابيّ، يزيده فسادا أنه لم يجر لمحمد عليه الصلاة والسلام في الآيات التي قبل ذلك ذكر، فيجوز صرف الهاء التي في قوله: لَيُؤْمِنَنّ بِهِ إلى أنها من ذكره، وإنما قوله: لَيُؤْمِنَنّ بِهِ في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود، فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرسول تقوم به حجة فأما الدعاوي فلا تتعذّر على أحد. فتأويل الآية إذ كان الأمر على ما وصفت: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وحذف «مَنْ» بعد «إلا» لدلالة الكلام عليه، فاستغني بدلالته عن إظهاره كسائر ما قد تقدمّ من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها.
"وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا": وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عيسى على أهل الكتاب "شَهِيدا": شاهدا عليهم بتكذيب من كذّبه منهم، وتصديق من صدّقه منهم فيما أتاهم به من عند الله وبإبلاغه رسالة ربه... وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا أنه قد أبلغهم ما أرسله به إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} فإنه قد بلغ رسالة ربه إليهم، وأقر على نفسه بالعبودة. وقيل: الشهيد الحافظ. وقيل: {ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} يكون محمد عليهم شهيدا. وهذا كله محتمل، والله أعلم بما أراد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاماً للحجة لهم، وكذلك قولهُ: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أنجز الكلام إلى أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على هذا المنهاج البديع بما ذكر في نصائح اليهود وقبائح أفعالهم، وأنهم قصدوا قتله عليه الصلاة والسلام، فخاب قصدهم، واصلد زندُهم، وقال رأيهم، ورد عليهم بغيهم، وحصل له بذلك أعلى المناصب وأولى المراتب؛ قال محققاً لما أثبته في الآية قبلها من القطع بكذبهم، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره الذي منه التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له: {وإن} أي والحال أنه ما {من أهل الكتاب} أي أحد يدرك نزوله في آخر الزمان {إلا} وعزتي {ليؤمنن به} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام {قبل موته} أي موت عيسى عليه الصلاة والسلام، أي إنه لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان، يؤيد الله دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل، إشارة إلى أن موسى عليه الصلاة والسلام إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً، فالنبي الذي نسخ شريعة موسى -وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام- هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته وتمهيد أمره والذب عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة وأتباع مستكثرة، أمر قضاء الله في الأزل فأمضاه، فأطيلوا أيها اليهود أو أقصروا! فمعنى الآية إذن -والله أعلم- أنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه الصلاة والسلام على شك إلا وهو يوقن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موته بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة -والله أعلم؛ روى الشيخان وأحمد وأبو بكر بن مردويه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عادلاً، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها"؛ وفي رواية: وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين؛ وفي رواية: حتى يهلك الله الملل كلها غير الإسلام، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} الآية: موت عيسى عليه الصلاة والسلام- ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات -ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد؛ وفي رواية: ويفيض المال حتى لا يقبله أحد؛ ولمسلم عنه رضي الله عنه: كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؛ وفي رواية: فأمكم منكم، قال الوليد بن مسلم- أحد رواة الحديث: قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني! قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ ولمسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا! فيقول: لا! إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة؛ وروى عن ابن عباس ومحمد بن علي المشهور بابن الحنفية رضي الله عنهم أن المعنى: ألا ليؤمنن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة حين لا ينفعه الإيمان، ليكون ذلك زيادة في حسرته، قال الأصبهاني: وتدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ: ليؤمنن قبل موتهم -بضم النون.
ولما أخبر تعالى عن حالهم معه في هذه الدار أتبعه فعله بهم في تلك فقال: {ويوم القيامة} أي الذي يقطع ذكره القلوب، ويحمل التفكر فيه على كل خير ويقطع عن كل شر {يكون} وأذن بشقائهم بقوله: {عليهم شهيداً} أي بما عملوا؛
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإن من أهل الكتاب} أي وما من أهل الكتاب أحد {إلا ليؤمنن به} أي ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا وهو أنه عبد الله ورسوله وآيته للناس {قبل موته} أي قبل موت ذلك الأحد الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. وحاصل المعنى أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وغيره من أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيمانا صحيحا، فاليهودي يعلم أنه رسول صادق غير دعي ولا كذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله فلا هو إله ولا ابن الله.
{ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} يشهد عليهم، بما تظهر به حقيقة أمره معهم، ومنه ما حكاه عنه في آخر سورة المائدة {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} [المائدة:117] وقد يشهد للمؤمن منهم في حال الاختبار والتكليف بإيمانه، وعلى الكافر بكفره، لأنه مبعوث إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى: {فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء:42] وذهب بعضهم إلى أن المراد أن كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى قبل موت عيسى وهذا مبني على القول تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي} وهم على هذا يحتاجون إلى تأويل النفي العام هنا بتخصيصه بمن يكون منهم حيا عند نزوله فيقولون: المعنى وما من أحد من أهل الكتاب الذين ينزل المسيح من السماء إلى الأرض وهم أحياء إلا ليؤمنن به ويتبعنه. والمتبادر من الآية المعنى الأول وهذا التخصيص لا دليل عليه وهو مبين على شيء لا نص عليه في القرآن حتى يكون قرينة له. والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسرة للآية.
أما المعنى الأول الذي هو الظاهر المتبادر من النظم البليغ فيؤيده ما ورد من اطلاع الناس قبل موتهم من الآخرة ومن كونهم يبشرون برضوان الله وكرامته أو بعذابه وعقوبته. ففي حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضر الموت (بضم الحاء أي حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته. وروى أحمد والنسائي من حديث أنس وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت وعن عائشة زيادة في حديث (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) الذي في الصحيحين وغيرهما وهي أنهم قالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت فقال: (ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب لقاءه. وأن الفاجر إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه) وروى ابن مردويه وابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس (ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار) وروى عن ابن أبي الدنيا عن رجل لم يسم عن علي مرفوعا. فهذه الأحاديث تؤيد ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير الآية من كون الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح، ومما يؤيد هذه الحقيقة النص في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق. ولها دلائل أخرى كالأحاديث الواردة في عدم قبول التوبة عند الغرغرة والله أعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونعود من هذا الاستطراد، مع عودة السياق القرآني إلى بقية هذا الاستدراك:
(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته؛ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا).
وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية، باختلافهم في عائد الضمير في "موته "فقال جماعة: وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى -عليه السلام- قبل موته -أي عيسى- وذلك على القول بنزوله قبيل الساعة.. وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى قبل موته.. أي موت الكتابي -وذلك على القول بأن الميت- وهو في سكرات الموت -يتبين له الحق، حيث لا ينفعه أن يعلم!
ونحن أميل إلى هذا القول الثاني؛ الذي ترشح له قراءة أبى: "إلا ليؤمنن به قبل موتهم".. فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير؛ وأنه أهل الكتاب.. وعلى هذا الوجه يكون المعنى: أن اليهود الذين كفروا بعيسى- عليه السلام -وما زالوا على كفرهم به، وقالوا: إنهم قتلوه وصلبوه، ما من أحد منهم يدركه الموت، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح، فيرى أن عيسى حق، ورسالته حق، فيؤمن به، ولكن حين لا ينفعه إيمان.. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه. وقيل: كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله. وعندي أنّ ضمير {به} راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل {رفعه الله إليه} [النساء: 158]، ويعمّ قولُه {أهلِ الكتاب} اليهودَ، والنّصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب. والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا نريد أن نشير إلى موقف الإسلام ومن يقولون أنهم نصارى من المسيح عليه السلام: هم يقولون أنه قتل وصلب ليطهر الخليقة من ذنب أبيهم آدم، وأن الله اختار ابنه ليكون فداء، وأما الإسلام فإنه يقول أن الله نجاه ورفعه إلى المنازل العليا.
ولا نريد أن نقول إنهم يرمون الله تعالى بالجهل إذ سكت أزمانا طويلة حتى بدا له أن يجعل ابنه فداء، ولا نريد أن نقول إن العنصر الإلهي كيف حل في مريم البتول، ولا نريد أن نقول إن الله عفا عن آدم، وإن لم يعف فإن العقاب يكون عليه ولا يكون على غيره، لا نريد أن نقول إن هذا كله مخالف لكل معقول ولكن نقول كيف يتصور أن يكون الفداء للخليقة بإنزال ابنه إلى الأرض ليقتله بعض ذرية آدم الذي عصى؟ إن المعقول أن يكونوا قد أضافوا إلى قولهم جريمة أخرى هي قتل ابن الله بل إنها جريمة أشد وأنكى، وإذ قيل لهم ذلك القول قالوا إن الدين له منطق غير منطق العقل. ولكن عيسى ابن مريم الحق فيه ما قاله القرآن ولكنهم يمترون. {قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفؤا أحد (4)} (الإخلاص).
إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق، انتهى كل شيء يبعد الإنسان عن منهج الحق اليقين، ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة ويقول: أنا اتبعت هوى نفسي، ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبه؟ لا، لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون، فقد قال حين أدركه الغرق: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} (من الآية90سورة يونس).