وقوله - سبحانه { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ } بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل ، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة ، وأفعال ذميمة .
والضمير في قوله { اتخذوا } يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان .
والأحبار : علماء اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها - وهو الذي يحسن القول ويتقنه ، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن ، والرهبان : علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا ، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله - تعالى .
والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله ، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم ، وفيما حرموه عليهم ، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفاً لشرع الله .
وهذا التفسير مأثور " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى الإِمام أحمد والترمذى وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فر إلى الشام : وكان قد تنصر في الجاهلية ، فاسرت أخته وجماعة من قومها ، ثم مَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها . فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإِسلام وفى القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم عدى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائى المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفى عنق عدى صليب من فضة ، وكان الرسول يقرأ هذه الآية { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله . . . } " .
قال عدى : فقت ، إنهم لم يعبدوهم ، فقال ، بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم .
قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير الآية : أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدى : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقال الآلوسى : وقيل اتخاذهم أرباباً بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله ، تعالى ، وحينئذ فلا مجاز ، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله ، لكلام علمائهم ورؤسائهم ، والحق أحق بالاتباع ، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتابعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده .
وقوله : { والمسيح ابن مَرْيَمَ } معطوف على قوله { أَحْبَارَهُمْ } والمفعول الثانى بالنسبة إليه محذوف أى : اتخذوه رباً وإلهاً .
قال صاحب المنار ما ملخصه : جمع - سبحانه . بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حتى التشريع فيهم : وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا ، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله ، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد .
وقوله : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } جملة حالية أى : اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيا يحرمونه عليهم ولو كان مخالفاً لشرع الله ؛ وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً وإلهاً .
والحال أنهم جميعاً ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده ، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا يكون الاعتماد إلا عليه ، وكل ما سواه فهو مخلوق له .
وقوله : { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } صفة ثانية لقوله { إلها } . أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده ، وأنه - سبحانه - هو المستحق لذلك شرعا وعقلا .
وقوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له .
أى : تنزه الله - عز وجل - وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، فهو رب العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين . .
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : ومن النص القرآنى الواضح الدلالة ، ومن تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للآية وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهى : أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعقاد في ألوهيتهم ، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم الله ، سبحانه ، عليهم بالشرك في هذه الآية ، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها - فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله ، الشرك الى يخرجه من عداد المؤمنين ، ويدخله في عداد الكافرين .
إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبيان النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاد وقدموا إليه الشعائر في العبادة .
واحد «الأحبار » حِبر بكسر الحاء ، ويقال حَبر بفتح الحاء والأول أفصح ، ومنه مداد الحبر ، والحَبر بالفتح : العالم ، وقال يونس بن حبيب : لم أسمعه إلا بكسر الحاء ، وقال الفراء : سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم ، وقال ابن السكيت الحِبر : بالكسر المداد والحَبر بالفتح العالم ، و «الرهبان » جمع راهب وهو الخائف من الرهبة ، وسماهم { أرباباً } وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم ، وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية ، وحكي الطبري أن عدي بن حاتم قال : «جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك ، فسمعته يقرأ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم ؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا ؟ قلت نعم . قال فذاك »{[5613]} ، { والمسيح } عطف على الأحبار والرهبان ، و { سبحانه } نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل ، والتقدير أنزهه تنزيهاً ، فمعنى { سبحانه } تنزيهاً له ، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى { عما يشركون } ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم، وهم العلماء... والنصارى رهبانهم، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم...
"أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ" يعني: سادة لهم من دون الله يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرّمه الله عليهم، ويحرّمون ما يحرّمونه عليهم مما قد أحله الله لهم...
حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا مالك بن إسماعيل، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا عن عبد السلام بن حرب، قال: حدثنا غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عديّ بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «يا عَدِيّ اطْرَحْ هذا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» قال: فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم فقال: «أليس يَحرّمونَ ما أحَلّ اللّهُ فَتُحَرّمُونَهُ، ويُحِلّونَ ما حَرّمَ اللّهُ فَتُحِلّونَهُ؟» قال: قلت: بلى. قال: «فَتِلكَ عِبادَتُهُمْ» واللفظ لحديث أبي كريب...
وأما قوله: "والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ" فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله.
وأما قوله: "وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلَها وَاحِدا" فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبار والرهبان والمسيح أربابا إلا أن يعبدوا معبودا واحدا، وأن يطيعوا إلا ربّا واحدا دون أرباب شتى وهو الله الذي له عبادة كلّ شيء وطاعة كلّ خلق، المستحقّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية، لا إله إلا هو. يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهة إلا لواحد الذي أمر الخلق بعبادته، ولزمت جميع العباد طاعته. "سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ" يقول: تنزيها وتطهيرا لله عما يشرك في طاعته وربوبيته القائلون عزير ابن الله، والقائلون المسيح ابن الله، المتخذون أحبارهم أربابا من دون الله.
ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم بالمصالح ثم قلّدوا هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وقبلوه منهم وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلّل، صاروا متخذين لهم أرباباً، إذ نَزّلوهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب. وقيل: إن معناه أنهم عظموهم كتعظيم الرب لأنهم يسجدون لهم إذا رأوهم، وهذا الضرب من التعظيم لا يستحقه غير الله تعالى، فلما فعلوا ذلك فهم كانوا متخذين لهم أرباباً.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والآية تدل على أن المشرك مع الله في التحليل والتحريم على مخالفة أمر الله كالمشرك في عبادة الله، لأن استحلال ما حرم الله كفر بالإجماع. وكل كافر مشرك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما لا تجوز مجاوزة الحد في وَضْع القدْرِ، لا تجوز مجاوزة الحد في رَفْع القَدْر، وفي الخبر:"أُمِرْنا أَنْ نُنْزِلَ الناسَ منازِلَهم". فَمَنْ رأى من المخلوقين شظيةً من الإبداع أنْزَلَهم منزلةَ الأرباب، وذلك -في التحقيق- شِرْك، وما أخلص في التوحيد مَنْ لم يَرَ جميعَ الحادثات بصفاتها من الله. {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا}: فمن رفع في عقده مخلوقاً فوق قدره فقد أشرك بربِّه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَبْرُ: هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ الْقَوْلَ وَيُنَظِّمُهُ وَيُتْقِنُهُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ، أَيْ جَمَعَ الزِّينَةَ. وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِحَمْلِ الْحِبْرِ وَهُوَ الْمِدَادُ وَالْكِتَابَةُ.
وَالرَّاهِبُ هُوَ من الرَّهْبَةِ: الَّذِي حَمَلَهُ خَوْفُ اللَّهِ عَلَى أَنْ يُخْلِصَ إلَيْهِ النِّيَّةَ دُونَ النَّاسِ، وَيَجْعَلَ زِمَامَهُ لَهُ، وَعَمَلَهُ مَعَهُ، وَأُنْسَهُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَرْبَابًا من دُونِ اللَّهِ}:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: (أَتَيْت النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ من ذَهَبٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَدِيُّ؟ اطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَنَ. وَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا من دُونِ اللَّهِ}. قَالَ: أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ}.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}؛ بَلْ يَجْعَلُونَ التَّحْرِيمَ لِغَيْرِهِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم زادهم جرأة عليهم بالإشارة إلى ضعف مستندهم حيث كان مخلوقاً مثلهم بقوله: {اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم العدول عن الله القادر على كل شيء وأخذوا {أحبارهم} أي من علماء اليهود، والحبر في الأصل العالم من أيّ طائفة كان {ورهبانهم} أي من زهاد النصارى، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة في قلبه فظهرت آثارها على وجهه ولباسه، فاختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع {أرباباً} أي آلهة لكونهم يفعلون ما يختص به الرب من تحريم ما حرموا وتحليل ما حللوا؛ وأشار إلى سفول أمرهم بقوله: {من دون الله} أي الحائز لجميع صفات الجلال، فكانوا يعولون عليهم ويسندون أمرهم إليهم حتى أن كانوا ليتبعونهم في الحلال والحرام و {المسيح} أي المبارك الذي هو أهل لأن المسيح بدهن القدس وأن يمسح غيره {ابن مريم} أي اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن امرأة، فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والتربية والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ومع تصريحه لهم بأنه عبد الله ورسوله، فتطابق العقل والنقل على أنه ليس بإله. ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم، قبحه عليهم من جهة مخالفته لأمره تعالى فقال: {وما} أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما {أمروا} أي من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل {إلا ليعبدوا} أي ليطيعوا على وجه التعبد {إلهاً واحداً} أي لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة، وذلك معنى وصفه بأنه {لا إله إلا هو} أي لا يصلح أن يكون معه إله آخر، فلما تعين ذلك في الله وكانت رتبته زائدة البعد عما أشركوا به، نزهه بقوله: {سبحانه} أي بعدت رتبته وعلت {عما يشركون} في كونه معبوداً أو مشرعاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والمعنى: اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أرباباً، فاليهود اتخذوا أحبارهم -وهم علماء الدين فيهم- أرباباً بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وأطاعوهم فيه، والنصارى اتخذوا رهبانهم -أي عبادهم الذين يخضع العوام لهم- أربابا كذلك. والأظهر أن يكون المراد من الأحبار والرهبان جملة رجال الدين في الفريقين، أي من العلماء والعباد، فذكر من كل فريق ما حذف مقابله من الآخر على طريقة الاحتباك، أي اتخذ اليهود أحبارهم وربانيهم والنصارى قسوسهم ورهبانهم أرباباً غير الله وبدون إذنه، بإعطائهم حق التشريع الديني لهم وبغير ذلك مما هو حق الرب تعالى. والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أرباباً يستلزم اتخاذ من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة بالأولى، فالرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدوناً كان أو غير مدوّن، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدوَّن، سواء قالوه بالتبع لمن فوقهم، أو من تلقاء أنفسهم، لثقتهم بدينهم. وكذلك اتخذوا المسيح ابن مريم رباً وإلهاً.
أشرك تعالى بين اليهود والنصارى في اتخاذ المسيح رباً وإلهاً يعبدونه، واليهود لم يعبدوا عزيراً، ولم يؤثر عمن قال منهم أنه ابن الله أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح أنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد، ومن النصارى من يعبدون أمه عبادة حقيقة ويصرحون بذلك، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين في عرفهم، يتوسلون بهم، ويتخذون لهم الصور والتماثيل في كنائسهم، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة في الغالب. والظاهر أن من كان قد تنصر من مشركي العرب لم يكونوا يعبدون هؤلاء الرؤساء والكبراء في الملة إلا قليلاً. وأما اتخاذهم أرباباً بالمعنى المأثور في تفسير الآية فقد كان عاما عند الفريقين، فإن اليهود لم يقتصروا في دينهم على أحكام التوراة؛ بل لم يلتزموها؛ بل أضافوا إليها من الشرائع اللسانية عن رؤسائهم ما كان خاصاً ببعض الأحوال من قبل أن يدونوه في المشنه والتلمود، ثم دونوه فكان هو الشرع العام، وعليه العمل عندهم.
وأما النصارى فقد نسخ رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية على إقرار المسيح لها، واستبدلوا بها شرائع كثيرة في العقائد والعبادات والمعاملات جميعا، وزادوا على ذلك انتحالهم حق مغفرة الذنوب لمن شاؤوا، أو حرمان من شاؤوا من رحمة الله وملكوته، وهذا حق الله وحده {ومن يغفر الذنوب إلا الله}؟ [آل عمران: 135] أي لا أحد. والقول بعصمة البابا رئيس الكنيسة في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من العبادات وتحريم المحرمات... روى الترمذي –وحسنه- وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، فقال: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)، كذا في الدر المنثور...
ولبعض المفسرين أقوال في الآية جديرة بأن تنقل بنصها لما فيها من العبرة لأهل هذا العصر:
قال العلامة الشيخ سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في تفسير هذه الآية من كتابه (الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية) -أي ما يتعلق بأصول العقائد وأصول الفقه في القرآن- ما نصه: «أما المسيح فاتخذوه رباً معبوداً بالحقيقة، وأما الأحبار لليهود والرهبان للنصارى فإنما اتخذوهم أرباباً مجازاً، لأنهم أمروهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإنكار رسالته فأطاعوهم، وغير ذلك مما أطاعوهم فيه فصاروا كالأرباب لهم بجامع الطاعة، والنصارى يزعمون أن المسيح قال لتلاميذه عند صعوده عنهم: ما حللتموه فهو محلول في السماء، وما ربطتموه فهو مربوط في السماء. فمن ثم إذا أذنب أحدهم ذنبا جاء بالقربان إلى البترك 50 أو الراهب، وقال: يا أبانا اغفر لنا، بناء على أن خلافة المسيح مستمرة فيهم، وأنهم أهل الحل والعقد في السماء والأرض على ما نقلوه عن المسيح وهو من ابتداعاتهم في الدين {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً} [التوبة: 31] الآية، بدليل قول المسيح {يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار} اه.
أقول: أما عبارته في الحل والربط فهي موافقة لترجمة اليسوعيين في التعبير بالفعل الماضي، وأما الترجمة الأميركانية فهي بالفعل المضارع هكذا:« الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء». وأما أمر المسيح إياهم بعبادة الله ربه وربهم وكذلك موسى عليه السلام فسيأتي.
وقال الإمام الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب): الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم. نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال: فقلت: لسنا نعبدهم، فقال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم). وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل 51؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
(ثم قال الرازي): قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه 52: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اه.
ثم قال: (فإن قيل): إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج. والجواب: أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه، لكن يلعنه ويستخف به، أما أولئك الأتباع كانوا (؟) يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم فظهر الفرق.
قال: (والقول الثاني) في تفسير هذه الربوبية: إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين فقد يلقي إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون، وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيدا عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم: أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الأولوهية، فإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة.
قال: وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيها لحكم الله، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا منهم أنواع الكفر فكفروا بالله، فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أربابا من دون الله، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد، وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة اه كلام الرازي.
(يقول محمد رشيد): إننا أوردنا هذا عن هذين المفسرين من أشهر مفسري القرون الوسطى وأكبر نظارها ليعتبر به مسلمو هذا العصر الذين يقلدون شيوخ مذاهبهم الموروثة بغير علم في العبادات والحلال والحرام بدون نص من كتاب الله قطعي الدلالة، أو سنة رسوله القطعية المتبعة بالعمل المتواتر، ولا من حديث صحيح ظاهر الدلالة أيضاً، بل فيما يخالف النصوص وكذا أصول أئمتهم أيضاً، والذين يتبعون مشايخ الطرق في بدعهم وغلوهم وضلالهم، ويوجد فيهم في هذا الزمان من هم مثل من ذكر الرازي ومن هم شر منهم، وقد بلغني عن معاصر من الدجالين المنتحلين للتصوف في مصر أنه قال لبعض الزائرين له ممن يظن أنه لا يقول بالخرافات: إن مريدي وأتباعي يعتقدون أنني أعلم الغيب، فماذا أفعل؟ وبلغني عن رجلين لا يعرف أحدهما الآخر أن كلا منهما رأى في المسجد الحرام أحد تلاميذ هذا الدجال يقول: نويت أن أصلي ركعتين لسيدي الشيخ فلان، أو قال: لوجه الشيخ فلان.
وأما المقلدون لمنتحلي الفقه المذهبي في كل ما يقولون بآرائهم وتقاليدهم أنه حلال أو حرام- وإن خالف السنة ونص القرآن- فهذا داء عام قلما كنت تجد قبل هذه السنين الأخيرة في البلد الكبير أحداً يخالفه فيؤثر ما صح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على قول مشايخ مذهبه إلا أفراداً غير مجاهرين، ونحمد الله تعالى أن رأينا تأثيراً كبيراً لدعوتنا المسلمين إلى هداية الكتاب والسنة، فصار يوجد في مصر وغيرها ألوف من الناس على هذه الهداية، ومنهم الدعاة إليها وأولو الجمعيات التي أسست للتعاون على نشرها، على تفاوت بينهم في العلم بهما، وجهل بعضهم أصل هذه الدعوة ومن جدد نشرها.
(وقال) السيد حسن صديق في تفسيره (فتح البيان في مقاصد القرآن) ما نصه:
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء. فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله، ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه؟ فعلمتم بما جاؤوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة، بل تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموها آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأفهاماً مريضة، وعقولاً مهيضة، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزيّة إن غَوَتْ غَويْتُ وإن ترشد غزيَّة أرشُدِ 53
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي أقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل اهدنا إلى الحق، وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية. اه.
أقول: والتحقيق أن اتخاذ الأرباب غير اتخاذ الآلهة، وأنهما يجتمعان ويفترقان: فإن رب العالمين هو خالقهم ومربيهم بنعمه ومدبر أمورهم بسننه الحكيمة وشارع الدين لهم، وأما الإله فهو المعبود بالفعل، أي الذي تتوجه إليه قلوب العباد بالأعمال النفسية والبدنية، والتروك للقربة ورجاء الثواب ومنع العقاب عن اعتقاد أنه صاحب السلطان الأعلى والقدرة على النفع والضر بالأسباب المعروفة وغير المعروفة؛ إذ هو مسخرها بغيرها إن شاء. والحقيق بالعبادة هو الرب الخالق المدبر وحده، ولكن من البشر من يترك عبادته، ومنهم من يعبد غيره معه أو من دونه. وكانت العرب تتخذ أصناما تعبدها، ولكنهم لم يتخذوها أرباباً؛ بل شهد القرآن بأنهم كانوا يعتقدون ويصرحون بأن الله الخالق لكل شيء هو رب كل شيء ومليكه ومدبر أمره، وهو يحتج عليهم بأن الرب هو الحقيق بالعبادة وحده دون غيره، فلا ينبغي لهم أن يعبدوا أحداً من دونه لا بشراً ولا ملكاً ولا شيئاً سفلياً ولا علوياً.
فمن اعتقد أن إنساناً أو ملكاً أو غيرهما من الموجودات يخلق كما يخلق الله أو يقدر على تدبير شيء من أمور الخلق والتصرف فيها قدرته الذاتية غير مقيد بسنن الله تعالى العامة في الأسباب والمسببات كأمثاله من أبناء جنسه فقد اتخذه ربا. وكذلك من أعطى أي إنسان حق التشريع الديني بوضع العبادات كالأوراد المبتدعة التي تتخذ شعائر موقوتة كالفرائض، وبالتحريم الديني الذي يتبع خوفاً من سخط الله ورجاء في ثوابه، فقد اتخذه رباً، وأما إذا دعاه فيما لا يقدر عليه المخلوقون بما لهم من الكسب في دائرة السنن الكونية والأسباب الدنيوية، أو سجد له، أو ذبح القرابين له وذكر عليها اسمه، أو طاف بقبره وتمسح به وقبله تقرباً إليه وابتغاء مرضاته وعطفه أو إرضائه الله عنه وتقريبه إليه زلفى- كما يطوف بالكعبة ويستلم الحجر الأسود ويقبله ولم يعتقد مع هذا أنه يخلق ويرزق ويدبر أمور العباد- فقد اتخذه إلهاً لا ربا، فإن جمع بين الأمرين فهو المشرك في الربوبية والألوهية معاً كما بينا هذا مراراً كثيرة.
وقد ثبت في الآيات المحكمة القطعية الدلالة أن الله تعالى هو شارع الدين، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ له عنه {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48]، {ما على الرسول إلا البلاغ} [المائدة: 99]، {فإنما عليك البلاغ} [آل عمران: 20]، فهذه أنواع الحصر التي هي أقوى الدلالات. وأركان الدين التي لا تثبت إلا بنص كتاب الله تعالى أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لمراده منه ثلاث:
(2) العبادات المطلقة والمقيدة بالزمان أو المكان أو الصفة أو العدد، ككلمات الأذان والإقامة المعدودة المشروط فيها رفع الصوت.
وما عدا ذلك من أحكام الشرع فيثبت باجتهاد الرأي فيما ليس له فيه نص، ومداره على إقامة المصالح ودفع المفاسد كما بيناه في محله بالتفصيل، ونصوص الكتاب وهدي السنة وعمل السلف الصالح وكلامهم كثير في هذا، ولا سيما التحريم الديني الذي هو موضوعنا هنا، وكونه لا يثبت إلا بدليل قطعي الرواية والدلالة... وجملة القول: إن الله تعالى أنكر في كتابه على من يقول برأيه وفهمه: هذا حلال وهذا حرام، وسماه كذاباً، وسمى اتباعه شركاً، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يحرم على الناس شيئاً مما أحل الله تعالى لهم في حديث الثوم والبصل وغيره، وإنما أحل الله هذين بالنصوص العامة كقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29]، وجعله العلماء أصلاً من أصول الأحكام، فقالوا الأصل في جميع الأشياء أو المنافع الإباحة.
والعمدة في تفسير اتخاذ رجال الدين أرباباً بما تقدم في حديث عدي بن حاتم وما في معناه من الآثار هي الآيات التي أشرنا إليها في كون التحريم على العباد إنما هو حق ربهم عليهم، وكونه تشريعاً دينياً، وإنما شارع الدين هو الله تعالى، فإذا نيط التشريع الديني بغيره تعالى كان ذلك إشراكاً بنص قوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}؟ [الشورى: 21]، وقد فصلنا هذا في مواضعه الخاصة به.
فليتق الله تعالى من يظنون بجهلهم أن جرأتهم على تحريم ما لم يحرمه الله تعالى على عباده من كمال الدين، وقوة اليقين، سواء حرموا ما حرموا بآرائهم وأهوائهم، أو بقياس في غير محله، مع كونهم من غير أهله، أو بالنقل عن بعض مؤلفي الكتب الميتين وإن كبرت ألقابهم، وكذا إن كان أخذا من نص شرعي لا يدل عليه دلالة قطعية...
{وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا} أي اتخذوا اليهود والنصارى رؤساءهم أرباباً من دون الله تعالى، والربوبية تستلزم الألوهية بالذات؛ إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده، واتخذ النصارى المسيح رباً وإلهاً. والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به عن الله إلا أن يعبدوا ويطيعوا في الدين إلهاً واحداً بما شرعه هو لهم، وهو ربهم ورب كل شيء ومليكه.
{لا إله إلا هو} هذه الجملة استئناف بياني لا صفة ثانية لإله، فهي تعليل للأمر بعبادة إله واحد بأنه لا وجود لغيره في حكم الشرع، ولا في نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بمحض الهوى والجهل، إذ ظن هؤلاء الجاهلون أن لبعض المخلوقات من السلطان الغيبي والقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب المسخرة للخلق مثل ما لله، إما بالذات، وإما بالوساطة عنده تعالى والشفاعة لديه، وهي الشفاعة الشركية المنفية بنصوص القرآن.
{سبحانه عما يشركون} أي تنزيهاً له عن شركهم في ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفي ربوبيته بطاعة الرؤساء في التشريع الديني بدون إذنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة. من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب.. فهم إذن على دين اللّه.. فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين اللّه، بشهادة واقعهم -بعد شهادة اعتقادهم- وأنهم أمروا بأن يعبدوا اللّه وحده، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه -كما اتخذوا المسيح ابن مريم رباً- وأن هذا منهم شرك باللّه.. تعالى اللّه عن شركهم.. فهم إذن ليسوا مؤمنين باللّه اعتقاداً وتصورا؛ كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم، ولم يصلوا ولم يصوموا لهم، ولم يعبدوهم أبداً، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم الله من قبلهم، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة.إِنّ القرآن المجيد يعلّم أتباعه في الآية محل البحث درساً قيّماً جدّاً، ويبيّن واحداً من أبرز مفاهيم التوحيد فيها، إِذ يقول: لا يحقُّ لأيّ مسلم طاعةُ إِنسان آخر دون قيد أو شرط، لأنّ هذا الأمر مساو لعبادته، وجميع الطاعات يجب أن تكون في إطار طاعة الله وأساساً فإنّ هذا النوع من الشرك أو العبادة الوثنية أخطر بكثير من عبادة الأصنام والأحجار في زمان الجاهلية، والسجود لها، لأنّ تلك الأصنام والأحجار ليس فيها روح حتى تستعمر عبدتها، إلاّ أنّ الأصنام البشرية وبسبب غرورهم وعدوانهم يجرّون أتباعهم إِلى الوبال والذلة والشقاء والانحطاط.