لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها ، وشدة تأثرها فقال - تعالى - { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } .
أى : قالت مريم على سبيل التعجب والاستغراب : يا رب كيف يكون لى ولد والحال أني لم يمسسنى بشر ، أى لست بذات زوج ، ولم يحصل منى قط ما يكون بين الرجل والمرأة مما يسبب عنه وجود الولد .
والجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا كان منها بعد أن قالت لها الملائكة ذلك ؟ فكان الجواب : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } . . . الخ .
وصدرت إجابتها بالنداء لله - تعالى - للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهة وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارا لقدرة الله - تعالى - وجملة { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } حالية محققة لما مر ومقوية له .
والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة ولاتي يترتب عليها وجود النسل غذا شاء الله ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل ، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته ، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط . وبذلك ينتفى بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس ، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر .
وهنا يحكى القرىن أن الله - تعالى - قد أزال عجبها واستنكارها بقوله : { قَالَ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
أى قال الله - تعالى - لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكته : كهذا الخلق الذى تجدينه ، بأن يكون لك ولد من غير أن يمسسك بشر وهو إبداع ، يخلق الله - تعالى - ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .
وبعضهم يجعل الوقوف على " كذلك " فتكون خبرا لمبتدأ محذوف أى قال - سبحانه - فى إجابته على مريم : الأمر كذلك أى يأتى الولد منك على الحالة التى أنت عليها لأن الله - تعالى - يخلق ما يشاء أن يخلقه بدون احتياج إلى وجود الأسباب والمسببات لنه هو خالقه وخالق كل شيء ، ولا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء .
وصرح ههنا بقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ولم يقل " يفعل " كما في قصة زكريا ، لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير ، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل .
ثم أكد - سبحانه - عظيم قدرته ونفاذ إرادته بقوله : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
وقضى هنا بمعنى أراد ، أى إذا اراد - سبحانه - شيئاً ، فإنما يقول لهذا الشيء كن فيكون من غير تأخر ومن غير وجود أسباب ، فهو كقوله - تعالى - { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } أى إنما نأمره مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشىء سريعا كلمح البصر .
قال الألوسى : وقوله { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة ، والممثل به أمر الآمر المطاع - المأمور المطيع على الفور ، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه .
وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة ، بأن يراد تعلق الكلام النفسى بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه .
وعلى كلا التقديرين فالمراد من هذا الجواب بيان أن الله - تعالى - لا يعجزه أن يخلق ولدا من غير أب ، لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا بعض البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم وبعض الصفات التي وصف الله - تعالى - بها عيسى ، وبينت جانباً من مظاهر قدرة الله - تعالى - ونفاذ إرادته ، وفى ذلك ما فيه من العظات والعبر لأولى الألباب .
وقول مريم : { ربِّ أنّى يكون لي ولد } استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها ، و{ يمسسني } ، معناه يطأ ويجامع ، والمسيس الجماع ، ومريم لم تنف مسيس الأيدي ، والإشارة بقوله : { كذلك } يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة ، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها ، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام ، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، { يخلق } من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه السلام ، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك ، وقوله تعالى : { إذا قضى } معناه إذا أراد إيجاده ، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به ، والضمير في { له } عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة ، قال مكي : وقيل المعنى يقول لأجله ، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد ، وقرأ جمهور السبعة «فيكونُ » بالرفع ، وقرأ ابن عامر وحده «فيكونَ » بالنصب ، فوجه الرفع العطف على { يقول } ، أو تقدير فهو يكون ، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله : { فيكون } ، خطاب للمخبر ، فليس كقوله قم فأحسن إليك ، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى :
{ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة }{[3177]} إنه مجرى جواب الأمر ، وإن لم يكن جواباً في الحقيقة ، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله ، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جواباً ، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة ، وإنما هو قول مجازي كما قال :
امتلأ الحوض وقال قطني{[3178]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وغير ذلك ، قال : لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر ، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون ، فهذه نزعة اعتزالية{[3179]} غفر الله له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.