ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } وقوله { يَحْسَبَنَّ } من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة " يحسبن " بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء .
وقوله : { يُعْجِزُونَ } من العجز ، وأصله - كما يقول الراغب - : التأخر عن الشئ . . ثم صار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشئ ، وهو ضد القدرة . . والعجوز سميت بذلك لعجزها في كثير من الأمور . .
والمعنى - على القراءة بالياء - : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه ، وخلصوا من عذابه .
. كلا إن حسبانهم هذا باطل - لأنهم لا يعجزون الله ، بل هو - سبحانه - قادر على إهلاكهم وتعذيبهم في كل وقت . .
وأن نجاتهم من القتل أو الأسرفي الدنيا لن تنفعهم شيئاً من العذاب المهين في الآخرة .
وعلى هذه القراءة يكون فاعل { يَحْسَبَنَّ } قوله { الذين كَفَرُواْ } ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، والمفعول الثانى جملة { سبقوا } .
وأما على القراءة الثانية { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } فيكون قوله { الذين كَفَرُواْ } هو المفعول الأول . وجملة { سبقوا } هى المفعول الثانى .
أى : ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا خيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا في مأمن منا . . كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم في أي وقت نريده فنحن لا يعجزنا شئ . .
وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين في النجاة ، وإقناطهم من الخلاص ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك ما دام قد استحب الكفر على الإِيمان ، أما المؤمنون فلهم من الله - تعالى - التأييد والنصر وحسن العقابة
وقوله تعالى : { ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسِبن » بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها ، و { الذين كفروا } مفعول أول ، و { سبقوا } مفعول ثان ، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون » بكسر ألف «إن » على القطع والابتداء ، و { يعجزون } معناه مفلتون ويعجزون طالبهم ، فهو ُمَعَّدى ( عجز ) بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضاً ، قال سويد : [ الوافر ]
وأعجزنا أبو ليلى طفيل*** صحيح الجلد من أثر السلاحِ
وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، كقريش في بدر وغيرهم ، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون ، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا ، وقيل المراد في الآخرة ، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تِحسبن » بكسر التاء ، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تَحسَبن » بفتح التاء من فوق وبفتح السين ، وقرأ الأعمش «ولا يَحسَب » بفتح السين والياء من تحت وحذف النون ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسِبنّ » بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة ، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبْنَ » بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين ، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد ، ويكون { قوله الذين كفروا } مفعولاً أولاً و { سبقوا } مفعولاً ثانياً ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هم الفاعلون ، ويكون المفعول الأول مضمراً و { سبقوا } مفعول ثان ، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هو الفاعل وتضمر «أن » فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين ، قال الفارسي : ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عز وجل قال { أفغير الله تأمروني أعبد }{[5428]} التقدير أن أعبد .
قال القاضي أبو محمد : ونحوه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5429]}
قال أبو علي : وقد حذفت «أن » وهي مع صلتها في موضع الفاعل ، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك : [ الطويل ]
وما راعنا إلا يسير بشرطة*** وعهدي به قيناً يفش بكير{[5430]}
وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون » بفتح الألف من «أنهم » ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون ، وقرأ الجمهور «يعْجزون » بسكون العين ، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعَجّزون » بفتح العين وشد الجيم ، وقرأ ابن محيصن «يعجزونِ » بكسر النون ومنحاها يعجِزوني بإلحاق الضمير ، قال الزجّاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني ، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين ، كما قال الشاعر : [ الوافر ]
تراه كالثغام يعل مسكاً*** يسوء الفاليات إذا فليني{[5431]}
قال القاضي أبو محمد : البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : [ الكامل ]
ولقد علمت ولا محالة أنَّني*** للحادثات فهل تريني أجزع{[5432]} ؟
هذا يجوز على الاضطرار ، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب ، وقال أبو العباس المبرد : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية ، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معد يكرب ، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون » قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.