ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ورحمته بهم في هذا الإِمداد فقال : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فالآية الكريمة كلام مستأنف ساقه - سبحانه - لبيان عبض مضاهر فضله على المؤمنين ، ولبيان أن المؤثر الحقيق هو الله وحده حتى يزدادوا ثقه به ، وحتى لا يقنطوا من النصر عند قلة أسبابه .
أى : وما جعل الله - تعالى - هذا الإِمداد بالملائكة إلا بشارة لكم - أيها المؤمنون - بالنصر على أعدائكم في هذه الغزوة الحاسمة وقوله { بشرى } مفعول لأجله مستثنى عن أعم العلل .
وقوله : { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } معطوف عليه : أى : ولتسكن بهذا الإِمداد قلوبكم ، ويزول عنكم الخوف ، وتهاجموا أعداءكم بنفوس لا يداخلها الإِحجام أو التردد . . .
وقوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أى : ليس النصر بالملائكة أو غيرهم إلا كائن من عند الله وحده ، لأنه - سبحانه - هو الخالق لكل شئ ، والاقدر على كل شئ .
وإن الوسائل مهما عظمت ، والأسباب مهما كثرت ، ولا تؤدى إلى النتيجة المطلوبة والغاية المرجوة ، إلا إذا أيدتها إرادة الله وقدرته ورعايته .
وقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أى : غالب لا يقهره شئ ، ولا ينازعه منازع حكيم في تدبيره وأفعاله .
فالجملة الكريمة بتذييل قصد به التعليل لما قبله ، وفيه إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات حكمته البالغة - سبحانه - .
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى [ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ ] }{[12709]} الآية أي : وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بُشرى ، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } ؛ وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم بدون ذلك ، ولهذا قال : { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } كما قال تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 4 - 6 ] وقال تعالى : { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 140 ، 141 ]فهذه حكم شَرَع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها ، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمة المكذبة ، كما أهلك قوم نوح بالطوفان ، وعادًا الأولى بالدَّبُور ، وثمود بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل{[12710]} وقوم شعيب بيوم الظلة ، فلما بعث الله تعالى موسى [ عليه السلام ]{[12711]} وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليمّ ، ثم أنزل{[12712]} على موسى التوراة ، شرع فيها قتال الكفار ، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ [ لِلنَّاسِ ] } [ القصص : 43 ]{[12713]} وقتل المؤمنين الكافرين أشد إهانة للكافرين ، وأشفى لصدور المؤمنين ، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ] } [ التوبة : 14 ، 15 ] ؛{[12714]} ولهذا كان قَتلُ صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم ، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان . فَقَتْلُ أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى ، أشد إهانة له من أن يموت على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك ، كما مات أبو لهب - لعنه الله - بالعَدَسة{[12715]} بحيث لم يقربه أحد من أقاربه ، وإنما غسلوه بالماء قذفًا من بعيد ، ورجموه حتى دفنوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي : له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ [ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ] } [ غافر : 51 ، 52 ]{[12716]} { حَكِيم } فيما شرعه من قتال الكفار ، مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم ، بحوله وقوته ، سبحانه وتعالى .
عطف على { أني مُمدكم بألفٍ من الملائكة مردَفين } [ الأنفال : 9 ] فالضمير المنصوب في قوله : { جَعله } عائِد إلى القول الذي تضمنه { فاستجاب لكم أني ممدكم } [ الأنفال : 9 ] أي ما جعل جوابكم بهذا الكلام إلاّ ليبشركم ، وإلاّ فقد كان يكفيكم أن يضمن لكم النصر دون أن يبين أنه بإمداد من الملائكة .
وفائِدة التبشير بإمداد الملائكة أن يوم بدر كان في أول يوم لقي فيه المسلمون عدواً قوياً وجيشاً عديداً ، فبشرهم الله بكيفية النصر الذي ضمنه لهم بأنه بجيش من الملائكة ، لأن النفوس أمْيل إلى المحسوسات ، فالنصر معنى من المعاني يدق إدراكه وسكون النفس لتصوره بخلاف الصور المحسوسة من تصوير مَدد الملائكة ورؤية أشكال بعضهم .
وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران إلاّ لتعرض لما بين الآيتين من اختلاف في ترتيب النظم وذلك في ثلاثة أمور :
أحدها : أنه قال في آل عمران ( 126 ) : { إِلا بشرى لكم } وحُذف ( لكم ) هنا دفعاً لتكرير لفظه لسبق كلمة { لكم } قريباً في قوله : { فاستجاب لكم } [ الأنفال : 9 ] فعلم السامع أن البشرى لهم ، فأغنت { لكم } الأولى ، بلفظها ومعناها ، عن ذكر { لكم } مرة ثانية ، ولأن آية آل عمران سيقت مساق الامتنان والتذكير بنعمة النصر في حين القلة والضعف ، فكان تقييد { بشرى } بأنها لأجلهم زيادة في المنة أي : جعل الله ذلك بشرى لأجلكم كقوله تعالى : { ألم نشرح لكَ صدرك } [ الشرح : 1 ] وأما آية الآنفال فهي مسوقة مساق العتاب على كراهية الخروج إلى بدر في أول الأمر ، وعلى اختيار أن تكون الطائفة التي تلاقيهم غير ذات الشوكة ، فجرد { بشرى } عن أن يعلق به { لكم } إذ كانت البشرى للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن لم يترددوا من المسلمين ، وقد تقدم ذلك في آل عمران .
ثانيها : تقديم المجرور هنا في قوله : { به قلوبكم } وهو يفيد الاختصاص ، فيكون المعنى : ولتطمئن به قلوبكم لا بغيره ، وفي هذا الاختصاص تعريض بما اعتراهم من الوجل من الطائفة ذات الشوكة وقناعتهم بغُنم العُروض التي كانت مع العِير ، فعُرض لهم بأنهم لم يتفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم حين استشارهم ، وأخبرهم بأن العير سلكتْ طريق الساحل فكان ذلك كافياً في أن يعلموا أن الطائفة الموعود بها تمحضت أنها طائفة النفير ، وكان الشأن أن يظنوا بوعد الله أكمل الأحوال ، فلما أراد الله تسكين روعهم ، وعَدهم بنصرة الملائكة علماً بأنه لا يُطْمئِنُ قُلوبهم إلاّ ذلك ، وجعل الفخرُ : التقديمَ هنا لمجرد الاهتمام بذلك الوعد ، وذلك من وجوه التقديم لكنه وجّه تأخيره في آل عمران بما هو غير مقبول .
ثالثها : أنه قال في سورة آل عمران ( 126 ) { العزيز الحكيم } فصاغ الصفتين العَلِيتَيْن في صيغة النعت ، وجعلهما في هذه الآية في صيغة الخبر المؤكد ، إذ قال : { إن الله عزيز حكيم } فنزّل المخاطبين منزلة مَن يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين : وهما العزة ، المقتضية أنه إذا وعَد بالنصر لم يُعجزه شيء ، والحكمةُ ، فما يصدر من جانبه غوصُ الإفهام في تبيّن مقتضاءه ، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظَفَر بإحدى الطائفتين وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفَر بالنفير .
وجملة : { إن الله عزيز حكيم } مستأنفة استينافاً ابتدائياً جعلت كالإخبار بما ليس بمعلوم لهم .