اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (10)

قوله : " وما جَعَلَهُ " الهاء تعود على الإمداد ، أي : وما جعل اللَّهُ الإمدادَ ، ثُمَّ هذا الإمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله : " إنِّي مُمِدُّك " إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم ، ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله : " مُمِدُّكم " كما دلَّ عليه فعلُهُ في قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] وهذا الثَّاني أولَى ؛ لأنَّه مُتأتٍّ على قراءة الفتح والكسر في : " أني " بخلاف الأول فإنَّهُ لا يتّجه عودُهُ على الإمداد على قراءة الكسر إلاَّ بتأويلٍ ذكره الزمخشريُّ : وهو أنَّه مفعول القول المضمر ، فهو في معنى القول .

وقيل يعودُ على المدد قاله الزَّجَّاجُ ، وهذا أولى ؛ لأنَّ بالإمداد بالملائكةِ كانت البُشْرَى .

وقال الفرَّاءُ{[17191]} : إنَّهُ يعودُ على الإرداف المدلول عليه ب " مُرْدفين " .

وقيل : يعودُ على : " الألف " .

وقيل : على المدلول عليه ب " يَعِدُكم " .

وقيل : على جبريل ، أو على الاستجابة لأنَّها مؤنثٌ مجازي ، أو على الإخبار بالإمداد ، وهي كلُّهَا محتملة وأرجحها الأوَّلُ ، والجعل هنا تصييرُ .

فصل في قتال الملائكة يوم بدر .

اختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا يوم بدر ؟ فقال قومٌ : نزل جبريلُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرِّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، وقد أرخوا أطرافهم بين أكتافهم وقاتلوا ، وقيل : قاتلُوا يوم بدر ولم يقاتلُوا يوم الأحزاب ، ويوم حنين .

رُوي أنَّ أبّا جهل قال لابنِ مسعُودٍ : مِنْ أينَ كان الصَّوت الذي كُنَّا نسمعُ ولا نرى شخصاً ؟ .

قال : من الملائكة .

فقال أبُو جهْلٍ : هُم غلبونَا لا أنتم .

" وروي أنَّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذْ سمع صوت ضربة السَّوْط فوقه ، فنظر إلى المشرك وقد خرَّ مستلقياً وشُق وجهه ، فحدَّث الأنصاريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صَدقتَ ذاكَ من مددِ السَّماءِ "

وقال آخرون لم يُقاتلُوا وإنَّما كانوا يكثرون السَّواد ويثبتون المؤمنين ، وإلاَّ فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا كلهم فإنَّ جبريل - عليه السلام - أهلكَ بريشةٍ من جناحه مدائن قوم لوطٍ ، وأهلك بلاد ثمود ، وقوم صالح بصيحة واحدة .

وقد تقدَّم الكلامُ في كيفية هذا الإمداد في سورة آل عمران ، ويدلُّ على أنَّ الملائكة لم يقاتلوا قوله { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } إذا جعلنا الضمير عائداً على الإرداف .

قال الزَّجَّاجُ : " وما جعل الله المردفينَ إلا بشرى " وهذا أولى ؛ لأنَّ الإمدادَ بالملائكة حصل بالبشرى .

{ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } والمقصود التَّنبيه على أنَّ الملائكةَ وإن كانُوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ الواجب على المؤمنِ أنْ لا يعتمد على ذلك ، بل يجبُ أن يكون اعتماده على اللَّهِ ونصره وكفايته ؛ لأنَّ الله هو العزيزُ الغالب الحكيم فيما ينزل من النُّصْرَةِ فيضعها في موضعها .


[17191]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/404.