ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال - تعالى - { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } .
وقد ذكر كثير من المفسرين " أن القائل لهذا القول : النضر بن الحارث ؛ فإنه كان قد ذهب إلا بلاد فارس فأحضر منها قصصاً عن ملوكهم . . ولما قدم مكة ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن قال للمشركين : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان - صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلس ، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم ، وغيرهم ثم قال : أينا أحس قصصا ؟ أنا أو محمد ؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر ، فقد أسره المقداد بن عمرو ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه وقال فيه : " إنه كان يقول في كتاب الله - عز وجل - ما يقول " " .
وأسند - سبحانه - قول النضر إلى جميع المشركين ، لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية .
والأساطير - كما يقول ابن جرير - : جمع أسطر ، لأن واحد الأسطر سطر . ثم يجمع السطر : أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر . وقد كان بعض أهل العربية يقول : واحد الأساطير : أسطورة - كأحاديث وأحدوثة .
والمراد بها : تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى ، والتى يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادى في الطغيان ، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله { قَالُواْ } بصفاته ووقاحة : { قَدْ سَمِعْنَا } أى : قد معنا ما قرأته علينا - يا محمد - ووعيناه { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } أي لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله - تعالى - .
ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن - الذي زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله - قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين .
والذى نعتقده أن قولهم هذا ، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كاوا يشنونها على الدعوة الإِسلامية ، بقصد تضليل البسطاء ، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب ، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين .
ولكنهم لم يفلحوا . فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة ، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصاراً حتى من أعدائه ، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم : " إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن اسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر . . وما يقول هذا بشر " .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } : نفاجة منهم وصلت تحت الراعدة ، فإنهم لم تيوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة . .
يخبر تعالى عن كفر قريش وعُتُوِّهم وتمرُّدهم وعنادهم ، ودعواهم الباطل عند سماع آياته حين تتلى عليهم أنهم يقولون : { قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } وهذا منهم قول لا فعل ، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا . وإنما هذا قول منهم يَغُرّون به أنفسهم ومن اتبعهم على باطلهم .
وقد قيل : إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث - لعنه الله - كما قد نص على ذلك سعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّيّ ، وابن جُرَيج وغيرهم ؛ فإنه - لعنه الله - كان قد ذهب إلى بلاد فارس ، وتعلم من أخبار ملوكهم رُسْتم واسفنديار ، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس القرآن ، فكان إذا قام صلى الله عليه وسلم{[12895]} من مجلس ، جلس فيه النضر فيحدثهم من أخبار أولئك ، ثم يقول : بالله أيهما أحسن قصصا ؟ أنا أو محمد ؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ، ففُعل ذلك ، ولله الحمد . وكان الذي أسره المقداد بن
الأسود ، رضي الله عنه ، كما قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبَة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : قَتَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْط وطُعَيْمة بن عَدِي ، والنضر بن الحارث . وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله ، قال المقداد : يا رسول الله ، أسيري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه كان يقول في كتاب الله ، عز وجل ، ما يقول " . فأمر رسول الله{[12896]} صلى الله عليه وسلم بقتله ، فقال المقداد : يا رسول الله ، أسيري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اغن المقداد من فضلك " . فقال المقداد : هذا الذي أردت . قال : وفيه أنزلت هذه الآية : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }{[12897]}
وكذا رواه هُشَيْم ، عن أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشِيّة ، عن سعيد بن جُبَيْر ؛ أنه قال : " المطعم بن عدي " " بدل طعيمة " {[12898]} وهو غلط ؛ لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : " لو كان المطعم{[12899]} حيا ، ثم سألني{[12900]} في هؤلاء النَّتْنَى{[12901]} لوهبتهم له " {[12902]} - يعني : الأسارى - لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف .
ومعنى : { أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } وهو جمع أسطورة ، أي : كتبهم اقتبسها ، فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس . وهذا هو الكذب البحت ، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 5 ، 6 ] . أي : لمن تاب إليه وأناب ؛ فإنه يتقبل منه ويصفح عنه .
{ وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } هو قول النضر بن الحارث ، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم فإنه كان قاصهم ، أو قول الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاءوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في باب البيان . { إن هذا إلا أساطير الأولين } ما سطره الأولون من القصص .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.