ثم ذكر - سبحانه - جانبا من بديع صنعه ، وجليل قدرته ، لكى يدل على أنه هو المعبود الحق فقال - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكُمُ . . . } .
أى : إن سيدكم ومالككم الذي يجب عليكم أن تفردوه بالعبادة هو الله الذي أنشأ السموات والرض على غير مثال سابق في مقدار ستة أيام .
قال الشهاب : اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أوقات . وإن أريد المعارف وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها فالمعنى في مقدار ستة أيام ، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات فيقدر فيه مضاف .
وقال صاحب فتح البيان : " قيل هذه الأيام من أيام الدنيا ، وقيل من أيام الآخرة ، قال ابن عباس : يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وقال سعيد ابن جبير ، " كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأنى في الأمور " .
وقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قال الشيخ القاسمى :
ورد الاستواء على معان اشترك لفظه فيها ، فجاء بمعنى الاستقرار ، ومنه { واستوت عَلَى الجودي } وبمعنى القصد ومنه { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌْ } وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له وإليه . قال الفراء : تقول العرب استوى إلى يخاصمنى أى : قصد لى وأقبل على . ويأتى بمعنى الاستيلاء .
قد استوى بشر على العراق . . . ويأتى بمعنى العلو ومنه هذه الآية .
قال البخاري في آخر صحيحه في كتاب الردل على الجهمية في باب قوله - تعالى - : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } أى : علا وارتفع .
وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا .
وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات .
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أن صفة لله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وأنه يجب الإيمان بها كما ورت وتفويض العلم بحقيقتها إليه - تعالى - .
فعن أم سلمة - رضى الله عنها - في تفسير قوله - تعالى - : { الرحمن عَلَى العرش استوى } أنها قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والاقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .
وقال الإمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .
وقال الإمام الرازى : إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه .
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرفه - أى الاستواء - عن ظاهره لاستحالته ، وأن المراد منه - كما قال الإمام القفال - أنه استقام ملكه ، واطرد أمره ونفذ حكمه - تعالى - في مخلوقاته ، والله - تعالى - دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم " تنبيها على عظمته وكمال قدرته " وذلك مشروط بنفى التشبيه ، ويشهد بذلك قوله - تعالى - : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر } هذا وللعلماء كلام طويل حول هذه المسألة التي تتعلق بالمحكم والمتشابه فليرجع إليها من شاء .
وقوله : { يُغْشِي الليل النهار } التغشية : التغطية والستر ، أى : يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره ، ويصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا ، ويجعل النهار غاشية لليل فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما ، وفى ذلك من منافع الناس ما فيه وبه تتم الحياة ، وهو دليل القدرة والحكمة والتدبير من الإله العلى العظيم .
ولم يذكر في هذه الآية يغشى الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله - تعالى - : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } أو لدلالة الحال عليه ، أو لأن اللفظ يحتملهما : يجعل الليل مفعولا أول والنهار مفعولا ثانيا أو بالعكس .
والآية الكريمة من باب أعطيت زيداً عمراً ، لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشياً ومغشياً ، فوجب جعل الليل هو الفاعل المعنوى ، والنهار ه المفعول من غير عكس لئلا يلتبس المعنى .
وقد قال - تعالى - في آية أخرى : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل } وقوله : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } أى : يطلب الليل النهار أو كلاهما بطلب الآخر طلباً سريعاً حتى يلحقه ويدركه ، وهو كناية عن أن أحدهما يأتى عقب الآخر ويخلفه بلا فاصل ، فكأنه يطلبه طلباً سريعاً لا يفتر عنه يحلقه .
والحث على الشىء : الحض عليه . يقال : حث الفرس على العدو يحثه حثاً صاحب ه أو وكزه برجل أو ضرب . وذهب حثيثاً أى : مسرعاً .
والجملة حال من الليل ، لأنه هو المتحدث عنه أو حال من النهار أى : مطلوب حثيثاً ، أو من كل منهما على الرأى الثانى الذي يفسر " يطلبه حثيثاً " بأن كليهما يطلب الأخر .
وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أى : وخلق الشمس والقمر والنجوم كونهن مذللات خاضعات لتصرفه ، منقادات لمشيئته ، كأنهن مميزات أمرن فانقدن ، فتسمية ذلك أمر على سبيل التشبيه .
قال الآلوسى : ويصح حمل الآمر على الإرادة . أى : هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته : ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامى وقال : إنه - سبحانه - أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصوص إلى حيث شاء ولا مانع أن يعطيها الله إدراكا وفهما لذلك " .
وقرأ الجمهور بنصب الألفاظ الثلاثة على أنها معطوفة على السموات ، أى : خلق السموات وخلق الشمس والقمر والنجوم . وبنصب { مُسَخَّرَاتٍ } أيضا على أنها حال من هذه الثلاثة .
وقرأ أبو عامر بالرفع في جميعها على الابتداء والخبر مسخرات .
وقوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } ألا : أداة يفتتح بها القول الذة يهتم بشأنه بأجل تنبيه المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله . والخلق : إيجاد الشىء من العدم . والأمر : التدبير والتصرف على حسب الإرادة لما خلقه . فهو - سبحانه - الخالق والمدبر للعالم على حسب إرادته وحكمته لا شريك له في ذلك .
وهذه الجملة الكريمة كالتدليل للكلام السابق أى : أنه - سبحانه - هو الذي خلق الأشياء كلها ويدخل في ذلك السموات والأرض وغيرهما ، وهو الذي دبر هذا الكون على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشار إليه بقوله : { مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } .
وقوله : { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } .
تبارك : فعل ماض لا يتصرف ، أى لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل . من البركة بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة . أى : كثر خيره وإحسانه وتعاظمت وتزايدت بركات الله رب العالمين .
أو من البركة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شىء ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .
أو المعنى : تعالى الله رب العالمين وتعظيم وارتفع وتنزه عن كل نقص .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم : سماواته وأرضه ، وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام هي : الأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، والجمعة - وفيه اجتمع الخلق كله ، وفيه خلق آدم ، عليه السلام . واختلفوا في هذه الأيام : هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان{[11812]} ؟ أو كل يوم كألف سنة ، كما نص على ذلك مجاهد ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس ؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ؛ لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا حجاج ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " .
فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه ، عن حجاج - وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به{[11813]} وفيه استيعاب الأيام السبعة ، والله تعالى قد قال في ستة أيام ؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث ، وجعلوه من رواية أبي هريرة ، عن كعب الأحبار ، ليس مرفوعا ، والله أعلم .
وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ، ليس هذا موضع بسطها ، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل . والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - : " من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر " . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ، ونفى عن الله تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى .
وقوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي : يذهب ظلام هذا بضياء هذا ، وضياء هذا بظلام هذا ، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا ، أي : سريعًا لا يتأخر عنه ، بل إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 37 - 40 ] فقوله : { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي : لا يفوته بوقت يتأخر عنه ، بل هو في أثره لا واسطة بينهما ؛ ولهذا قال : { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } - منهم من نصب ، ومنهم من رفع ، وكلاهما قريب المعنى ، أي : الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ؛ ولهذا قال منَبِّها : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } ؟ أي : له الملك والتصرف ، { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } كما قال [ تعالى ]{[11814]} { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] }{[11815]} [ الفرقان : 61 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد ، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه ، فقد كفر وحبط عمله . ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا ، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ؛ لقوله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }{[11816]}
وفي الدعاء المأثور ، عن أبي الدرداء - وروي مرفوعا - : " اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله " {[11817]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {يغشي الليل النهار}، يقول: يغشي ظلمة الليل ضوء النهار،
{يطلبه حثيثا}، يعني سريعا، {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} لبني آدم، {ألا له الخلق}، يعني كل شيء خلق، {والأمر}، يعني قضاءه في الخلق الذي في اللوح المحفوظ، فله المشيئة في الخلق والأمر، {تبارك الله رب العالمين}، فيخبر بعظمته وقدرته.
القاضي عياض: قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكا فقال: {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى يا أبا عبد الله؟ فسكت مالك مليا حتى علاه الرحضاء، وما رأينا مالكا وجد من شيء وجده من مقالته، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به، ثم سري عنه. فقال: الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالا، أخرجوه! فناداه الرجل: يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله إلا هو، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحدا وفق لما وفقت له.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كلّ شيء، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام... "ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ "وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: "يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا" فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره. "يَطْلُبُهُ" يقول: يطلب الليل النهار "حَثِيثا" يعني سريعا...
"والشّمْسَ والقَمَر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأْمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِين". يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمره، ألا لله الخلق كله، والأمر الذي لا يخالف ولا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن ربكم الله الذي} لا رب لكم سواه ولا لأحد من الخلائق. هو الله الذي لا إله غيره، ليوجّهوا إليه العبادة في الحقيقة، وليؤدوا إليه شكر ما أنعم عليهم، وإن كانت نعمه أعظم من أن يجزيها العباد، وحقه أجلّ من أن يقوم به العباد، لولا أن الله، سبحانه، لم يرد من البيان على ربوبيته والدليل على ألوهيته سوى ما أنطق به على لسان رسوله [به] الإيضاح أنه لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق لكان ذلك بيانا شافيا. لكنه بفضل رحمته بين الأدلة التي تحقق ذلك، وتعلم أنه كما أجابه رسوله إلا أن يعاند الحق، ويكابر العقل فقال عز وجل {الذي خلق السماوات والأرض} إلى آخر ما ذكر دلالة خلق ما ذكر من آثار التدبير وعجيب التقدير الذي به قوام كل ممّن يحتمل المنافع والمضار واتصال ما بين السماء والأرض على تباعد بعض من بعض في المنافع مع جمع الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال بعد أن كانت السماوات والأرض مشتبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة ولا بالذي فيه من أي وجه تقضى الحاجة ليدل أن مدبّر الكل واحد؟ وأنه عليم حكيم...
{ثم استوى على العرش} وهو الملك؛ إذ لم يكن قبل ذلك من له التمييز. ومعرفة الملك والسلطان وقدر العلم بالمحامد والمعالي وأضداد ذلك إنما يكون بأولئك الذين ركبت فيهم العقول، وأكرموا بالتمييز وبما جعل لهم جعل العالم، وهم المقصودون من الإنشاء. لذلك جعل كل من سواهم مسخرا لمنافعهم داخلة تحت أفهامهم مما تحتمل أكثر. ذلك تدبير ليعلم أنهم قصدوا لأنفسهم أو لمعرفة ما عليهم من شكر النعم والعبادة. فكان بهم تمام ظهور الملك وبلوغه النهاية، فأخبر بالاستواء؛ إذ هو وصف العلو والرفعة ووصف التمام في الرتبة والقدر، وذلك في معنى الاستواء على العرش من حيث ظهور الملك وبيان الحجة والربوبية للمستدلين والمعتبرين...
ونحن نقول، وبالله التوفيق، قد ثبت من طريق التّنزيل بأنه استوى على العرش، وقد لزم القول بأنه {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] في الأرض. وعلى ذلك اتفاق القول: ألا يقدّر كلامه بما عرف من كلام الخلق ولا فعله به، وما يوجبه، ولا علمه ولا ما قيل: هو رب كذا أو مالك كذا، لا يراد به المفهوم من الخلق. لكن الوجه الذي يليق به وما يوجبه حق الربوبية. فمثله في الأول، ثم يلزم تسليم المراد لما عنده؛ إذ لم يبيّنه لنا، وقد ثبت ما يفهم من غيره...
وقوله تعالى: [{والنجوم مسخّرات بأمره}] وسخّر ما ذكر، فكذلك سخّرهن بالسير في ما يرجع إلى منافع الخلق، وجعل فيهن آية لولا العيان لم يكن يصدّق به أحد ممن يجحد البعث والرسل ونحوهم.
ولكن الله، سبحانه، أظهر لهم من قدرته وعظيم حكمته بما بسط لهم [الأرض] بغلظها وسعتها، ورفع عليها السماء بغير عمد ترى، فأقرّ كلاّ من ذلك لحاجة أهلها إلى قرارها، وسيّر فيها بالتسخير ما ذكر لحاجة الأهل في تيسير ذلك ليعلم أنه لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر، ولا يدخل في تدبيره عوج ولا في خلقه تفاوت، وأن الذي أظهر إذا قوبل بالذي وعد يضاعف عليه بوجوه له مع ما كان الذي أظهر، هو إبداع على غير احتذاء، وإنشاء الإعادة لا، والله الموفق. ثم من عجيب قدرته، سبحانه، في قوله تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا} أن الله تعالى يظهر النور في ابتداء النهار من طرف السماء والظلمة في أول الليل، ثم ينشر ذلك، ويبسطه في جميع أطراف السماء والأرض وما بينهما من جميع الأقطار والجوانب في قدر لحظة بصر وطرفة العين مما لو أريد تقدير ذلك بالهندسة وبجميع ما في الخلق من المقادير لما أحيط بالذي انبسط [من] ذلك النور والظلام ليعلم أن الله على ما يشاء قدير، وأنه لو أراد لخلق جميع ما ذكر في أدق مدة وألطف وقت، وأنه القادر على البعث وجميع ما جاءت بالخبر عنه الرسل.
وقوله تعالى: {بأمره} قال أبو بكر: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أمره كما يقال: أتاه أمر الله؛ أي الموت والعذاب ونحو ذلك على إرادة ذلك نزل به. والثاني: أن يطلعن ويغربن بأمر بتوحيد الله والإيمان فيه بما فيهن من عجيب الحكمة ورفيع التقدير. وقال الحسن: {بأمره} الذي به كون الأشياء من قوله: {كن}... وكذلك قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} فيه وجهان: أحدهما: الإخبار عن تكوين الخلق الذي هو له. والثاني: الإخبار عن الأمر في خلقه بما شاء؟ ولا يرد شيء من الوجه الذي أمر، والله أعلم.
وقوله تعالى: {مسخّرات بأمره} قال بعضهم: {بأمره} أي بتكوينه أي أنشاها، وكوّنها مسخّرات لهم. وقال بعضهم: {بأمره} ينفعن البشر. وقوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} قال بعضهم: الأمر ههنا هو التكوين، وقيل: {ألا له الخلق} والتدبير في الخلق، وقيل: له الأمر في الخلق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "يغشى الليل النهار "معناه يجلل الليل النهار أي يدخل عليه. وقال الازهري: أقبل عليه. والإغشاء هو: إلباس الشيء ما رق بما يجلله، ومنه غاشية السرج، والغشاوة التي تخرج على الولد،
وقوله "يطلبه حثيثا" معناه أنه يستمر على منهاج واحد وطريقة واحدة من غير فتور يوجب الاضطراب، كما يكون في السوق الحثيث.
وقوله "ألا له الخلق والأمر" إنما فصل الخلق من الأمر، لأن فائدتهما مختلفة "لأن له الخلق" يفيد أن له الاختراع، "وله الأمر" معناه له أن يأمر فيه بما أحب فأفاد الثاني مالم يفده الأول.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قِدَمِه ودوامِ ثبوته من حيث يُقال بَرَكَ الطيرُ على الماء. وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العِزِّ لأنه قد تبارك أي تعظَّم. وأشارت إلى إسداد النِّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البَرَكَة هي الزيادة فهي مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {تبارك الله}، أي: تعالى الله وتعظم. وقيل: ارتفع. والمبارك المرتفع. وقيل: تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره، وعن ابن عباس قال: جاء بكل بركة، وقال الحسن: تجيء البركة من عنده وقيل: تبارك: تقدس. والقدس: الطهارة، وقيل: {تبارك الله} أي: باسمه يتبرك في كل شيء. وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. وأصل البركة الثبوت...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} الآية، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة.
خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال، ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلا قليلا قال بعده: {فاصبر على ما يقولون} من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه، وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل. ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين: الوجه الأول: أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة، كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم، وقادر عليم رحيم...
ثم قال بعده: {تبارك الله رب العالمين} والبركة لها تفسيران: أحدهما: البقاء والثبات والثاني: كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة، وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه، فإن حملته على الثبات والدوام، فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه، فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه في جميع الأمور. وأيضا إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى، لأن الموجود إما واجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه، فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه، ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه، فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه، لا جرم كان الثناء المذكور بقوله: {فتبارك الله رب العالمين} إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته.
في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات، ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات؟ ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم، ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب، وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان، فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل، فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره؟...
{ثم استوى على العرش}...حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الأئمة -منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري -:"من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر". وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه، وما نعلمه من المعاني أمره، أنتج قطعاً قوله {ألا له} أي وحده، وقدم المسبب على السبب ترقية -كما هو مقتضى الحكم- من المحسوس إلى المعقول فقال: {الخلق} وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي: فكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق، فعالم الخلق بتسخيره، وعالم الأمر بتدبيره، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في الآيتين اللتين قبل هذه الآية وبعد آيات الجزاء والمعاد سبب هلاك الكافرين وخسران أنفسهم بالشرك في ألوهيته، وعبادة من اتخذوهم شفعاء عنده بغير إذنه، وعدم اتباع الرسل الذين دعوهم إلى عبادته وحده بما شرعه لهم، دون ما ابتدعوه أو ابتدعه لهم من قبلهم، ثم قفى على ذلك بخمس آيات جامعة لجملة ما جاءت به الرسل من الدين بإيجاز بليغ، ابتدأها بآية الخلق والتكوين، الهادية إلى حقيقة الربوبية والألوهية برهانا على أصل الدين، فقال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام}...
الرب هو السيد والمالك والمدبر المربي، والإله هو المعبود أي الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه. وأما اسم الجلالة الأعظم (الله) فهو اسم لرب العالمين خالق الخلق أجمعين، الذي ينفي الموحدون الحنفاء ربوبية غيره وألوهية سواه، ويقول بعض المشركين إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة أو مرجعهم الذي يشفعون عنده، وكان مشركو العرب وأمثالهم ينفون وجود سواه وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه...
والسماوات والأرض يطلقان في مثل هذا المقام على كل موجود مخلوق أو ما يعبر عنه بعض الناس بالعالم العلوي والعالم السفلي وإن كان العلو والسفل فيهما من الأمور الإضافية. وقد أجمعت الأمم على أن خالق جملة العالم واحد هو رب العالمين، والذين اتخذوا من دون الله أربابا كانوا يقيدون ربوبيتهم بأمور معينة وكل إليهم تدبيرها ويسمونهم بأسماء تدل على ذلك... فالله تعالى يقول في هذه الآية للناس كافة إن ربكم واحد، وهو الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو المدبر لأمورهما وحده، فيجب أن تعبدوه وحده فلا يكون لكم إله غيره، وقد تطلق السماوات على ما دون العرش من العالم العلوي ولاسيما إذا وصفت بالسبع...
وأما هذه الأيام الستة فهي من أيام الله التي يتحدد اليوم منها بعمل من أعماله يكون فيه، فإن اليوم في اللغة هو الزمن الذي يمتاز بما يحصل فيه من غيره كامتياز أيامنا بما يحدها من النور والظلام، وأيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام، وأيام الله التي أمر موسى أن يذكر قومه بها، أي أزمنة نعمه عليهم...
والصواب المعقول أن النظام أدل الدلائل على الإرادة والاختيار والعلم والحكمة في آثار القدرة، وعلى وحدانية الخالق، فإن وحدة النظام في العالم أظهر البراهين على وحدة الرب تعالى. وما لا نظام فيه هو الذي قد يخطر في بال رائيه أن وجوده أمر اتفاقي أو من قذفات الضرورة العمياء أو بفعل أكثر من واحد. وأي عاقل لا يفرق بين كومة من الحصى يراها في الصحراء وبين قصر مشيد فيه جميع ما يحتاج إليه مترفو الأغنياء من حجرات ومرافق، أفيعقل أن يكون النظام العام في العالم الأكبر ووحدة السنن التي قام بها بالمصادفة؟ أو أثر إرادات متعددة؟ كلا... وحقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء واعتداله، ومن المجاز كما في الأساس: استوى على الدابة وعلى السرير والفراش، وانتهى شبابه، واستوى على البلد اه... لم يشتبه أحد من الصحابة في معنى استواء الرب تعالى على العرش، على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق، إذ كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وأن الإيمان بذلك لا يتوقف على معرفة كنه ذلك التدبير وصفته وكيف يكون، بل لا يتوقف على وجود عرش، ولكن ورد في الكتاب والسنة أن لله عرشا خلقه قبل خلق السماوات والأرض. وأن له جملة من الملائكة، فهو كما تدل اللغة مركز تدبير العالم كله...
والقاعدة التي كانوا عليها في كل ما أسنده الرب تعالى إلى نفسه من الصفات والأفعال التي وردت في اللغة في استعمالها في الخلق أن يؤمنوا بما تدل عليه من معنى الكمال والتصرف مع التنزيه عن تشبيه الرب بخلقه فيقولون، إنه اتصف بالرحمة والمحبة واستوى على عرشه، بالمعنى الذي يليق به، لا بمعنى الانفعال الحادث الذي نجده للحب والرحمة في أنفسنا، ولا ما نعهده من الاستواء والتدبير من ملوكنا. وحسبنا أن نستفيد من وصفه بهاتين الصفتين أثرهما في خلقه، وأن نطلب رحمته ونعمل ما يكسبنا محبته، وما يترتب عليهما من مثوبته وإحسانه، ونستفيد من الاستواء على عرشه كون الملك والتدبير له وحده فلا نعبد غيره ولذلك قرنه في آخر آية يونس بقوله: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} (يونس 3) وفي سورة الم السجدة: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} (السجدة 3) وهذا يؤيد ما صدرنا به تفسير الآية من أنها كأمثالها تقرر وحدانية الربوبية على أنها حجة لوحدانية الإلهية وإبطال عبادة غيره تعالى معه بمعنى ما كانوا يدعونه من الشفاعة...
{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} "ألا "أداة يفتتح بها القول الذي يهتم بشأنه، لأجل تنبيه المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. ألا له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين).. إن عقيدة التوحيد الإسلامية، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه؛ ولا عن كيفيات أفعاله.. فالله سبحانه ليس كمثله شيء.. ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشئ صورة عن ذات الله. فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء. فإذا كان الله -سبحانه- ليس كمثله شيء، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى. ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً. ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله.. وهذا هو مجاله.. ومن ثم تصبح أسئلة كهذه: كيف خلق الله السماوات والأرض؟ كيف استوى على العرش؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه؟!... تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي. أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء! ولقد خاضت الطوائف -مع الأسف- في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية! فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم.. وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن. إنها قد تكون ست مراحل. وقد تكون ستة أطوار. وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام -إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان!.. وقد تكون شيئاً آخر.. فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد.. وكل حمل لهذا النص ومثله على "تخمينات "البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن- باسم "العلم!" -هو محاولة تحكمية، منشؤها الهزيمة الروحية أمام "العلم" الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض!... ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة. فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والاستواء حقيقتهُ: الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريل {فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى} [النجم: 6 8].
والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذا الآية. ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن: هنا. وفي يونس، والرّعد، وطه، والفرقان، وألم السجدة، والحديد، وفُصِّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون.
فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ: لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا ...
... والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغل بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجزّ. ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف، وتسخير السّحاب للأمطار، وتسخير النّهار للعمل، واللّيل للسّكون، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف، والشّمس للدّفء في الشّتاء، والظلّ للتبرد في الصّيف، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها، ولذلك قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية: 13] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة. فقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له. إن هذا التعبير في الحقيقة ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله، وجلس جانباً. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده وحدوثه، دون بقائه واستمراره. إنّ هذه الجملة تقول: كلاّ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله، كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.