ثم ساق القرآن بعد ذلك بعض الأمثلة للمؤمنين المهتدين وللضالين المغرورين فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ . . . }
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )
{ حَآجَّ } أي جادل وخاصم والمحاجة : المخاصمة والمغالبة بالقول يقال حاججته فحججته أي خاصمته بالقول فتغلبت عليه وتستعمل المحاجة كثيراً في المخاصمة بالباطل ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } وقوله - تعالى - : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ } والمعنى : لقد علمت أيها العاقل صفة ذلك الكافر المغرور الذي جادل إبراهيم - عليه السلام - في شأن خالقه عز وجل - ومن لم يعلم قصته فها نحن أولاء نخبره عن طريق هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والاستفهام للتعجب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره والمراد به - كما قال ابن كثير - نمرود بن كنعان بن كوس بن سام ابن نوح ملك بابل ، وكان معاصراً لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - .
وأطلق القرآن على ما دار بين هذا الملك المغرور بين سيدنا إبراهيم أنها حاجة مع أنها مجادلة بالباطل من هذا الملك ، أطلق ذلك من باب المماثلة اللفظية أو هي محاجة في نظره السقيم ورأيه الباطل .
والضمير في قوله : { فِي رَبِّهِ } يعود إلى إبراهيم - عليه السلام - وقيل يعود إلى نمرود لأنه هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه والإِضافة - على الرأي الأول - للتشريف ، وللإِيذان من أول الأمر بأن الله - تعالى - مؤيد وناصر لعبده إبراهيم . وقوله : { أَنْ آتَاهُ الله الملك } بيان لسبب إقدام هذا الملك على ما أقدم عليه من ضلال وطغيان . أي سبب هذه المحاجة لأنه أعطاه الله - تعالى - الملك فبطر وتكبر ولم يشكره - سبحانه - على هذه النعمة ، بل استعملها في غير ما خلقت له فقوله : { أَنْ آتَاهُ } مفعول لأجله ، والكلام على تقدير حذف لام الجر ، وهو مطرد الحذف مع أن وأن .
وقوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذل كالملك في مقام التدليل على وحدانية الله وأنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة أي قال له : ربي وحده هو الذي ينشئ الحياة ويوجدها ، ويميت الأرواح ويفقدها حياتها ، ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك .
وقول إبراهيم - كما حكاه القرآن - : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } مفيد للقصر عن طريق تعريف المبتدأ وهو { رَبِّيَ } والخبر هو الموصول وصلته .
وعبر بالمضارع في قوله : { الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } لإفادة معنى التجدد والحدوث الذي يرى ويحس بين وقت وآخر .
أي ربي هو الذي يحيى الناس ويميتهم كما ترى ذلك مشاهداً في كثير من الأوقات ، فمن الواجب عليك أن تخصه بالعبادة والخضوع وأن تقلع عما أنت فيه من كفر وطغيان وضلال .
وقوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } ظرف لقوله : { حَآجَّ } أو بدل اشتمال منه ، و في هذا القول الذي حكاه القرآن عن إبراهيم - عليه السلام - أوضح حجة وأقواها على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة ، لأن كل عاقل يدرك أن الحق هو الذي يملك الإِحياء والإِماتة ويملك بعث الناس يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم وهو أمر ينكره ذلك الملك الكافر .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : والظاهر أن قول إبراهيم { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } جواب لسؤال سابق غير مذكور . وذلك أنه من المعلوم أن الأنبياء بعثوا للدعوة إلأى الله ، ومتى ادعى الرسول الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلهاً . فالظاهر هنا أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال له نمرود : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيى ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها ، ودليل إبراهيم في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإِحياء والإِماتة وقدم ذكر الحياة على الموت هنا . لأن من شأن الدليل أن يكون في غاية الوضوح والقوة ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإِنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة ها هنا في الذكر .
م حكى القرآن جواب نمرود على إبراهيم فقال : { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } أي قال ذلك الطاغية : إذا كنت يا إبراهيم تدعى أن ربك وحده الذي يحيى ويميت فأنا أعرضك في ذلك لأنى أنا - أيضاً أحيي وأميت وما دام الأمر كذلك فأنا مستحق للربوبية . قالوا : ويقصد بقوله هذا أنه يستطيع أن يعفو عمن حكم بقتله ، ويقتل من شاء أن يقتله .
ولقد كان في استطاعة إبراهيم - عليه السلام - أن يبطل قوله ، بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الأحياء والإِماتة المقصودين بالاحتجاج ، لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت ، كان في استطاعة الخليل - عليه السلام - أن يفعل ذلك ، ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة ، وأتاه بحجة هي غاية في الإِفحام فقال له - كما حكى القرآن : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } .
أي قال إبراهيم لخمه المغرور : لقد زعمت أنك تملك الإِحياء والإِماتة كما يملك الله - تعالى - ذلك ، ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركاً لله - تعالى - في قدرته فإن كان ذلك صحيحاً فأنت ترى وغيرك يرى أن الله - تعالى - يأتي بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأت بها أنت من جهة المغرب في هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذفها إبراهيم - عليه السلام - في وجه خصمه ؟ كانت نتيجتها - كما حكى القرآن - { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } أي : غلبت وقهر ، وتحير وانقطع عن حجاجه ، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم ، لأنه فوجئ بما لا يملك دفعه .
و ( بهت ) فعل ماض جاء على صورة الفعل المبني للمجهول - كزهي وزكم - والمعنى فيه على البناء للفاعل . وقوله : { الذي كَفَرَ } هو فاعله . والبهت : الانقطاع والحيرة ، وقرئ بوزن - علم ونصر وكرم .
والفاء في قوله : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس } . . إلخ فصيحة لأنها أفصحت عن جواب لشرط مقدر أي إن كنت كما تزعم أنك تحيي وتميت وأن قدرتك كقدرة الله فإن الله - تعالى - يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من الغرب .
وعبر عن هذا البهوت بقوله : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس } للإِشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي لا يهديهم إلى طريق الحق . ولا يلهمهم حجة ولا برهاناً . بسبب ظلمهم وطغيانهم وإيثارهم طريق الشيطان على طريق الرحمن .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لوناً من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكي يكون في ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون .
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل : نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح . ويقال : نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره .
قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين . والكافران : نمرود [ بن كنعان ]{[2]} وبختنصر . فالله أعلم .
ومعنى قوله : { أَلَمْ تَرَ } أي : بقلبك يا محمد { إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي : [ في ]{[3]} وجود ربه . وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره ، وطول مدته في الملك ؛ وذلك أنه يقال : إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ؛ ولهذا قال : { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها ، وعدمها بعد وجودها . وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة ؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له . فعند ذلك قال المحاج{[4]} - وهو النمروذ - : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد : وذلك أني{[5]} أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل ، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل . فذلك معنى الإحياء والإماتة .
والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا ؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه ؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع . وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت ، كما اقتدى به فرعون في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة : { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي : إذا كنت كما تدعي من أنك [ أنت الذي ]{[6]} تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب . فلما علم عجزه وانقطاعه ، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي : أخرس فلا يتكلم ، وقامت عليه الحجة . قال الله تعالى{[7]} { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين : أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية . وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم : أن النمروذ كان عنده{[8]} طعام وكان الناس يغدون{[9]} إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام ، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام . فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما . فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال : أنى لكم هذا ؟ قالت : من الذي جئت به . فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل . قال{[10]} زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي . فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة ، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها .
القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ) يعني تعالى ذكره بقوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم يعني الذي خاصم إبراهيم يعني إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم في ربه أن آتاه الله الملك يعني بذلك حاجة فخاصمه في ربه لأن الله آتاه الملك وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدصلى الله عليه وسلم من الذي حاج إبراهيم في ربه ولذلك أدخلت إلى في قوله ألم تر إلى الذي حاج وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا ما ترى إلى هذا والمعنى هل رأيت مثل هذا أو كهذا وقيل إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل إنه نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرقخشذ ابن سام بن نوح . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى قال ثنا أبو نعيم عن سفيان عن ليث عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن النضر بن عدي عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قال كنا نتحدث أنه ملك يقال له نمروذ وهو أول ملك تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .
الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال هو اسمه نمروذ وهو أول من تجبر في الأرض حاج إبراهيم في ربه .
حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك قال ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكاٌ يقال له نمروذ وهو أول جبار تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو نمروذ بن كنعان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هو نمروذ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمروذ . قال ابن جريج : هو نمروذ ، ويقال إنه أول ملك في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : ربيَ الذي يحيي ويميت ، يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء ، قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله ، فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له . وذلك عند العرب يسمى إحياء ، كما قال تعالى ذكره : { وَمَنْ أحْيَاها فَكأنّمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا } وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها ! قال الله تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني انقطع وبطلت حجته ، يقال منه : بُهت يُبْهَتُ بَهْتا ، وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : بَهِتَ ، ويقال : بَهَتّ الرجل إذا افتريت عليه كذبا بَهْتا وَبُهْتانا وبَهَاتةً . وقد روي عن بعض القرءة أنه قرأ : «فَبَهَتَ الّذِي كَفَرَ » بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { إذْ قال إبْرَاهِيمُ رَبيَ الّذِي يُحْيي ويُمِيتُ ، قال أنا أُحْيِي وأُمِيتُ } وذكر لنا أنه دعا برجلين ، فقتل أحدهما ، واستحيا الاَخر ، فقال : أنا أحيي هذا ، أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ، قال إبراهيم عند ذلك : { فإنّ اللّه يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أنا أحيي وأميت : أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين والكافرون : بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ ، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت . حتى مرّ إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، { قالَ إبراهيمُ فإنّ اللّهَ يَأتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } قال : فردّه بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله فمرّ على كثيب من رمل أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ؟ فأخذ منه فأتى أهله ، قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته ، فإذا هي بأجود طعام رأته ، فصنعت له منه ، فقرّبته إليه . وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به . فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل ربّ غيري ؟ فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلى العظام ، والمِلك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرْحَمُ الناس به من جَمَعَ يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذّبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : { فَأتى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرّتين ، فقال : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . { قالَ إبرَاهِيمُ فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا . وجُوَالِقا إبراهيم يصطفقان ، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله ، قال : ليحزنني صبياي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرّت عينا صبيّيّ ، حتى إذا كان الليل أهرقته . قال : فملأهما ثم خيطهما ، ثم جاء بهما ، فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت صنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلاً قليلاً لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغِرارتين ففتقتها ، فإذا حوّاري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فطحنته وعجنته . فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أيّ شيء هذا يا سارة ؟ قالت : من جُوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير . قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الاَخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قال هو ، يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت ، فدعا برجلين ، فاستحياأحدهما ، وقتل الاَخر ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : أي أستحيي من شئت ، فقال إبراهيم : { فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ، أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا ! فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك . قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر ، وقال : إن هذا إنسان مجنون ، فأخرجوه ! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ؟ وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله تعالى ذكره : { وَتِلكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاها إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } فكان يزعم أنه ربّ . وأمر بإبراهيم فأخرج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت . قال ابن جريج ، كان أتى برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الاَخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي ، قال : أستحيي فلا أقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : ذكر لنا والله أعلم . أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبده ، وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمّته ، وأعفو عن الاَخر فأتركه وأكون قد أحييته . فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ، أعرفْ أنه كما تقول ! فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني وقعت عليه الحجة ، يعني نمروذ
وقوله : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ، لأن أهل الباطل حججهم داحضة . وقد بينا أن معنى الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر : وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } أي لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )
{ ألم تر } تنبيه ، وهي رؤية القلب( {[2473]} ) ، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم ترْ » بجزم الراء( {[2474]} ) ، و { الذي حاج إبراهيم } هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة( {[2475]} ) ، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم( {[2476]} ) وغيرهم . وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض وهذا مردود . وقال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل( {[2477]} ) . وقيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته( {[2478]} ) وهو أحد الكافرين . والآخر بخت نصر . وقيل : إن { الذي حاج إبراهيم } نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما : ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة( {[2479]} ) فكلما جاء قوم قال : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار ، فقال له من ربك وإلهك ؟ قال { قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت } ، فلما سمعها نمرود قال : { أنا أحيي وأميت } ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس ، { فبهت الذي كفر } ، وقال : لا تميروه ، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء ، فمر على كثيب من رمل كالدقيق ، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعاماً يجده حاضراً إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحُوَّارَي( {[2480]} ) فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه فقال : من أين هذا ؟ فقالت من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك ، وقال الربيع وغيره في هذه القصص : إن النمرود لما قال : { أنا أحيي وأميت } أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال : قد أحييت هذا وأمتُّ هذا ، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت ، والرواية الأخرى ذكر السدي : أنه لما خرج إبراهيم من النار( {[2481]} ) أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيى ويميت ، قال نمرود : { أنا أحيي وأميت } ، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتاً ولا يطعمون شيئاً ولا يسقون ، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا ، وتركت اثنين فماتا ، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت . وذكر الأصوليون في هذه الآية : أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة ، لكنه أمر له حقيقة ومجاز ، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة ، ففزع نمرود إلى المجاز( {[2482]} ) وموه به على قومه ، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل ، وانتقل معه من المثال ، وجاءه بأمر لا مجاز فيه ، { فبهت الذي كفر } ، ولم يمكنه أن يقول : أنا الآتي بها من المشرق ، لأن ذوي الأسنان يكذبونه( {[2483]} ) ، وقوله { حاجّ } وزنه «فاعل » من الحجة أي جاذبه أياها والضمير في { ربه } يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام ، ويحتمل أن يعود على { الذي حاج } ، و { أن }( {[2484]} ) مفعول من أجله والضمير في { آتاه } للنمرود ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة ، وهذا تحامل من التأويل( {[2485]} ) ، وقرأ جمهور القراء { أن أحيي } بطرح الألف التي بعد النون من { أنا } إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع ، فإن ورشاً وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن ، مثل [ أنا أحيي ] [ أنا أخوك ] ( {[2486]} ) إلا في قوله تعالى :{ إن أنا إلا نذير }( {[2487]} ) [ الأعراف : 188 ] [ الشعراء : 115 ] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة ، قال أبو علي : ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون( {[2488]} ) ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحياناً في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف ، وهي مثل ألف حيهلا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي ، فتأمل . قال أبو علي : فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف ، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف ، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر :
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني . . . حميداً قد تذريت السناما( {[2489]} )
وقرأ الجمهور( {[2490]} ) : «فبُهِتَ » الذي بضم الباء وكسر الهاء ، يقال بهت الرجل : إذا انقطع وقامت عليه الحجة . قال ابن سيده : ويقال في هذا المعنى : «بَهِتَ » بفتح الباء وكسر الهاء ، «وَبَهُت » بفتح الباء وضم الهاء . قال الطبري : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى ، «بَهَت » بفتح الباء والهاء .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول( {[2491]} ) دون تقييد بفتح الباء والهاء ، قال ابن جني : قرا أبو حيوة : «فبَهُت » بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء ، قال : وقرأ ابن السميفع : «فبَهَت » بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر ، فالذي في موضع نصب ، قال : وقد يجوز أن يكون «بَهَت » بفتحهما لغة في بهت . قال : وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهِت » بكسر الهاء كَخَرِقَ ودهِش( {[2492]} ) ، قال : والأكثر بالضم في الهاء ، قال ابن جني : يعني أن الضم يكون للمبالغة ، قال الفقيه أبو محمد : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ { فبهت } بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف ، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، وقوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } ، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته .
والمعنى : لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم ، لأنه لا هدى في الظلم ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص ، كما ذكرنا( {[2493]} ) ، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان . ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالماً .
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثالِ لها ؛ فإنّه لما ذكر أنّ الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأنّ الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات ، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنّه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن ، فكان هذا في قوّة المثال .
والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم في البعث بحال الذي حاجّ إبراهيم في ربه ، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله : { و كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] الآية .
وقد مَضى الكلام على تركيب ألم تر . والاستفهامُ في { ألم تر } مجازي متضمّن معنى التعجيب ، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] . وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلاهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة ، وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس . ومعنى { حاجّ } خاصم ، وهو فعل جاء على زنة المفاعلة ، ولا يعرف لحاجّ في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها . ومن العجيب أنّ الحجة في كلام العرب البرهان المصدّق للدعوى مع أنّ حاج لا يستعمل غالباً إلاّ في معنى المخاصمة ؛ قال تعالى : { وإذ يتحاجّون في النار } [ غافر : 47 ] مع قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] ، وأنّ الأغلب أنّه يفيد الخصام بباطل ، قال تعالى : { وحاجّه قومه قال أتحاجّوني في الله وقد هدان } [ الأنعام : 80 ] وقال : { فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] والآيات في ذلك كثيرة . فمعنى { الذي حاجّ إبراهيم } أنّه خاصمه خصاماً باطلاً في شأن صفات الله ربّ إبراهيم .
والذي حَاجّ إبرهيم كافر لا محالة لقوله : { فبهت الذي كفر } ، وقد قيل : إنّه نمرودُ بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح ، فيكون أخا ( رَعو ) جدِّ إبراهيم . والذي يُعتمد أنّه ملك جبّار ، كان ملكاً في بابل ، وأنّه الذي بنى مدينة بابل ، وبنى الصرح الذي في بابل ، واسمه نمرُود بالدال المهملة في آخره ويقال بالذال المعجمة ، ولم تتعرّض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات .
والضمير المضاف إليه رَب عائِد إلى إبراهيم ، والإضافة لتشريف المضاف إليه ، ويجوز عوده إلى الذي ، والإضافة لإظهار غلطه كقول ابن زيابة
نُبِّئْتُ عَمراً غارزاً رأسَه *** في سِنَةٍ يُوعِدُ أخوا لَه
أي ما كان من شأن المروءة أن يُظهر شراً لأهلِ رحمه .
وقوله : { أن أتاه الله الملك } تعليل حذفت منه لام التعليل ، وهو تعليل لما يتضمنّه حاجّ من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهّله عنده ازدهاؤه وإعجابه بنفسه ، فهو تعليل محض وليس علة غَائِيَّة مقصودةً للمحاجِّ من حجاجه .
وجوّز صاحب « الكشاف » أن يكون تعليلاً غائياً أي حاجّ لأجل أنّ الله آتاه الملك ، فاللام استعارة تبعية لمعنى يُؤدَّى بحرف غير اللام ، والداعي لهاته الاستعارة التهكّم ، أي أنّه وضعَ الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنَّكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] ، أي جزاءَ رزقكم . وإيتاء الملك مجاز في التفضّل عليه بتقدير أن جعله ملكاً وخوّله ذلك ، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى : { وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم } في سورة الأنعام ( 83 ) . قيل : كان نمرود أولَ ملك في الأرض وأولَ من وضع التاج على رأسه . { وإذ قال } ظرف لحَاجّ . وقد دل هذا على أنّ إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واحتجّ بحجة واضحة يدركها كل عاقل وهي أن الربّ الحق هو الذي يحيي ويميت ؛ فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنّه لا يستطيع إحياء ميت فلذلك ابتدأ إبراهيم الحجة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات ، وأراد بأنّ الله يحيي أنّه يخلق الأجسام الحيّة من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة . وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البعث لأنّ الذي حاجّ إبراهيم كان من عبدة الأصنام ، وهم ينكرون البعث . وذلك موضع العِبرة من سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك ، ثم أعقبه بدلالة الأمانة ، فإنّه لا يستطيع تنهية حياة الحي ، ففي الإحياء والأمانة دلالة على أنّهما من فعل فاعل غير البشر ، فالله هو الذي يحيي ويميت . فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلاً كالأصنام إذْ لا يُعطون الحياة غيرَهم وهم فاقدوها ، ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاجّ إبراهيم .
وجملة { قال أنا أحيي } بيان لحاجّ والتقدير حاجّ إبراهيمَ قال أنا أحيي وأميت حين قال له إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } . وقد جاء بمغالطة عن جهل أو غرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنّه يعمد إلى من حَكَم عليه بالموت فيعفو عنه ، وإلى بريء فيقتله ، كذا نقلوه . ويجوز أن يكون مراده أنّ الإحياء والإماتة من فِعله هوَ لأنّ أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس .
وقرأ الجمهور ألف ضمير ( أنا ) بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف ( أنا ) في العربية . وقرأه نافع وأبو جعفر مثلَهم إلاّ إذا وقع بعد الألفِ همزةُ قطع مضمومةٌ أو مفتوحةٌ كما هنا ، وكما في قوله تعالى : { وأنا أول المسلمين } [ الأنعام : 163 ] فيقرأه بألف ممدودة . وفي همزة القطع المكسورة روايتان لقالونَ عن نافع نحو قوله تعالى : { إن أنا إلا نذير } [ الأعراف : 188 ] وهذه لغة فصيحة .
وقوله : { قال إبراهيم } مجاوبة فقطعت عن العطف جرياً علَى طريقة حكاية المحاورات ، وقد عدل إبراهيم عن الاعتراض بأنّ هذا ليس من الإحياء المحتجّ به ولا من الإماتة المحتجّ بها ، فأعرض عنه لِمَا علم من مكابرة خصمه وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله ، ولذلك بُهت ، أي عجز لم يجد معارضة .
وبهت فعل مبْني للمجهول يقال بَهَتَه فبُهت بمعنى أعجزه عن الجواب فعَجز أو فَاجَأه بما لم يَعرف دفعه قال تعالى : { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم } [ الأنبياء : 40 ] وقال عروة العذري :
فما هو إلاّ أن أراها فُجَاءَة *** فأُبْهَتَ حتى ما أكادُ أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يُبهت سامعَه .
وقوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } تذييل هو حوصلة الحجة على قوله { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } ، وإنّما انتفى هدي الله القوم الظالمين لأنّ الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمّل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع ؛ إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره .
والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد ، والقرآن مملوء بذلك ، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصّب وترويج الباطل والخطإ .