ثم قالوا له على سبيل الاستهزاء والتوبيخ { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } أى : وما تكره منا وتعيب إلا الإيمان بالله ، مع أن ما تكرهه منا وتعيبه علينا هو أعظم محاسننا ، لأنه خير الأعمال ، وأعظم المناقب ، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك .
يقال : نقم عليه أمره ، ونقمت منه نقما - من باب ضرب - عبته وكرهته أشد الكراهة .
قال الجمل : وقوله { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } يجوز أن يكون في محل نصب مفعول به ، أى : ما تعيب علينا إلا إيماننا .
ويجوز أن يكون مفعولا من أجله . أى : ما تنال منا وتعذبنا لشىء من الأشياء إلا لإيماننا . وعلى كل من القولين فهو استثناء مفرغ " .
ثم ختموا مناقشتهم لفرعون بالانصراف عنه والالتجاء إلى الله - تعالى - فقالوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أى : يا ربنا افض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك ، وتوفنا إليك حالة كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك ، مستسلمين لقضائك .
وبذلك يكون السحرة قد ضربوا للناس في كل زمان ومكان أروع الأمثال في التضحية من أجل العقيدة ، وفى الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة ، وفى الصبر على المكاره والآلام ، وفى المسارعة إلى الدخول في الطريق الحق بعد أن تبين لهم ، وفى التعالى عن كل مغريات الحياة .
قال قتادة : كانوا في أول النهار كفاراً سحرة . وفى آخره شهداء بررة ، فرضى الله عنهم وحشرنا في زمرتهم .
وقول السحرة : { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي : قد تحققنا أنا إليه راجعون ، وعذابه أشد من عذابك ، ونكاله{[12019]} ما تدعونا إليه ، وما أكرهتنا عليه من السحر ، أعظم{[12020]} من نكالك ، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله ، لما قالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : عمنا بالصبر على دينك ، والثبات عليه ، { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : متابعين لنبيك موسى ، عليه السلام . وقالوا لفرعون : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا } [ طه : 72 - 75 ] فكانوا في أول النهار سحرة ، فصاروا في آخره{[12019]} شهداء بررة .
قال ابن عباس ، وعُبَيد بن عُمَيْر ، وقتادة ، وابن جُرَيْج : كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخره شهداء .
وقوله : وَما تَنْقِمُ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا بآياتِ رَبّنا يقول : ما تنكر منا يا فرعون وما تجد علينا ، إلا من أجل أن آمنا : أي صدّقنا بآيات ربنا ، يقول : بحجج ربنا وأعلامه وأدلته التي لا يقدر على مثلها أنت ، ولا أحد سوى الله ، الذي له ملك السموات والأرض . ثم فزعوا إلى الله ، بمسئلته الصبر على عذاب فرعون ، وقبض أرواحهم على الإسلام ، فقالوا : رَبّنا أفْرغْ عَلَيْنا صَبْرا يعنون بقولهم : أفرغ : أنزل علينا حبسا يحبسنا عن الكفر بك عند تعذيب فرعون إيانا . وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ يقول : واقبضنا إليك على الإسلام ، دين خليلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، لا على الشرك بك .
فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : لأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ فقتلهم وصَلَبهم ، كما قال عبد الله بن عباس حين قالوا : رَبّنا أفْرغْ عَلَيْنا صَبْرا وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ قال : كانوا في أوّل النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن عبيد بن عمير ، قال : كانت السحرة أوّل النهار سحرة ، وآخر النهار شهداء .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُلْقِيَ السّحَرَةُ ساجِدِينَ قال : ذكر لنا أنهم كانوا في أوّل النهار سحرة ، وآخره شهداء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : رَبّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرا وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ قال : كانوا أوّل النهار سحرة ، وآخره شهداء .
وقرأ جمهور الناس «تنقِم » بكسر القاف ، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهشم وابن أبي عبلة ، والحسن بن أبي الحسن «تنقَم » بفتحها وهم لغتان ، قال أبو حاتم : الوحه في القراءة كسر القاف ، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات :
ما نقَموا من بني أمية . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . .
بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا وتؤاخذنا به ؟ وقولهم { أفرغ علينا صبراً } معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه ، وهي هنا مستعارة ، وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وحكى النقاش عن مقاتل أنه قال : مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.