ثم كشف - سبحانه - عن حقيقة أحوالهم ، وعن الأسباب التى دفعتهم إلى إيثار الباطل على الحق فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ } . أى : إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بإنكارهم للبعث . . بل جاءوا بما هو أشنع وأفظع منه ، وهو تكذيبهم لنبوتك - أيها الرسول الكريم - تلك النبوة الثابتة بالمعجزات الناصعة ، ومن مظاهر هذا التكذيب أنهم تارة يقولون عنك ساحر ، وتارة يقولون عنك كاهن وتارة يصفوك بالجنون .
فهم فى أمر مريج ، أى : مضطرب مختلط . بحيث لا يستقرون على حال . يقال : مرج الأمر - بزنة طرب - إذا اختلط وتزعزع ، وفقد الثبات والاستقرار والصلاح . . ومنه قولهم : مرجعت أمانات الناس ، إذا فسدت وعمتهم الخيانة ، ومرج الخاتم فى إصبع فلان ، إذا تخلخل واضطرب لشدة هزال صاحبه .
وفى هذا الرد عليهم تصوير بديع معجز ، حيث بين - سبحانه - بأنه عليم بما تأكله الأرض من أجسادهم المغيبة فيها ، وبتناقص هذه الاجساد رويدا رويدا ، وأن كل أحوالهم مسجلة فى كتاب حفيظ ، وأنهم عندما فارقوا الحق الثابت وكذبوه ، مادت الأرض من تحتهم واضطربت ، واختلطت عليهم الأمور والتبست ، فصاروا يلقون التهم جزافا دون أن يستقروا على رأى ، أو يجتمعوا على كلمة .
ثم بين تعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال : { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } أي : وهذا حال كل من خرج عن الحق ، مهما قال بعد ذلك فهو باطل . والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله ، كقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8 ، 9 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيَ أَمْرٍ مّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } .
يقول تعالى ذكره : ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ في قيلهم هذا بَلْ كَذّبُوا بالحَقّ ، وهو القرآن لَمّا جَاءَهُمْ من الله . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ كَذّبُوا بالحَقّ لَمّا جاءَهُمْ أي كذّبوا بالقرآن فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ يقول : فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس ، لا يعرفون حقه من باطله ، ( يقال ) قد مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل .
وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها ، وإن كانت متقاربات المعاني ، فقال بعضهم : معناها : فهم في أمر منكر وقال : المريج : هو الشيء المنكر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني سلم بن قُتيبة ، عن وهب بن حبيب الاَمديّ ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله : أمْرٍ مَرِيجٍ قال : المريج : الشيء المنكر أما سمعت قول الشاعر :
فَجالَتْ والْتَمَسَتْ بهِ حَشاهَا *** فَخَرّ كأنّهُ خُوطٌ مَرِيج
وقال آخرون : بل معنى ذلك : في أمر مختلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله فِي أمْرٍ مَرِيجٍ يقول : مختلف .
وقال آخرون : بل معناه : في أمر ضلالة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فَهُمْ في أمْرٍ مَرِيجٍ قال : هم في أمر ضلالة .
وقال آخرون : بل معناه : في أمر مُلْتبِس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ قال : مُلْتَبِسٍ .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أَمْرٍ مَرِيجٍ قال : ملتبس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ ملتبس عليهم أمره .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : والتبس عليه دينه .
وقال آخرون : بل هو المختلط . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فِي أمْرٍ مَرِيجٍ قال : المريج : المختلط .
وإنما قلت : هذه العبارات وإن اختلفت ألفاظها فهي في المعنى متقاربات ، لأن الشيء مختلف ملتبس ، معناه مشكل . وإذا كان كذلك كان منكرا ، لأن المعروف واضح بين ، وإذا كان غير معروف كان لا شكّ ضلالة ، لأن الهدى بيّن لا لبس فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.