التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (25)

وبعد أن بين - سبحانه - حال الحياة الدنيا ، وقصر مدة التمتع بها ، أتبع ذلك بدعوة الناس جميعا إلى العمل الصالح الذي يوصلهم إلى الجنة فقال - تعالى - :

{ والله يدعوا إلى دَارِ . . . }

المقصود بدار السلام : الجنة التي أعدها الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، وسميت بذلك ، لأنها الدار التي سلم أهلها من كل ألم وآفة . أو لأن تحيتهم فيها سلام ، أو لأن السلام من أسماء الله - تعالى - فأضيفت إليه تعظيما لشأنها ، وتشريفا لقدرها ، كما يقال للكعبة : بيت الله .

وقوله : { والله يدعوا إلى دَارِ السلام . . . } معطوف على محذوف يدل عليه السياق .

والتقدير : الشيطان يدعوكم إلى إيثار متاع الحياة الدنيا وزخرفها ، والله - تعالى - يدعو الناس جميعا إلى الإِيمان الحق الذي يوصلهم إلى دار كرامته .

وقوله : { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو المؤدى بصاحبه إلى رضوان الله ومغفرته .

والمراد بالصراط المستقيم : الدين الحق الذي شرعه الله لعباده . وبلغه لهم عن طريق نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (25)

تفسير الشافعي 204 هـ :

... فهدى بكتابه ثم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من أنعم عليه، يعني: من أنعم عليه بالسعادة والتوفيق دون من حرمها. فبين بهذا أن الدعوة عامةٌ، والهداية ـ التي هي التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية ـ خاصةٌ، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دارِ اِلسَّلَـامِ وَيَهْدِى مَنْ يَّشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. (مناقب الشافعي: 1/415.)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس لا تطلبوا الدنيا وزينتها، فإن مصيرها إلى فناء وزوال كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلاً إلى هلاك وبوار، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جنّاته التي أعدّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها وتأمنوا من فناء ما فيها من النعيم والكرامة التي أعدّها لمن دخلها، وهو يَهْدى من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جلّ ثناؤه سببا للوصول إلى رضاه وطريقا لمن ركبه وسلك فيه إلى جنانه وكرامته...

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «قيلَ لي: لِتَنمْ عَيْنُكَ، وَلْيَعْقَلْ قَلْبُكَ، وَلْتَسْمَعْ أذُنُكَ فَنامَتْ عَيْنِي، وَعَقَلَ قَلْبِي، وَسَمَعَتْ أُذُنِي. ثُمّ قِيلَ: سَيّدٌ بَنِي دَارا، ثمّ صَنَعَ مَأْدُبَةً، ثُمّ أرْسَلَ دَاعيا، فَمَنْ أجابَ الدّاعِيَ دَخَلَ الدّارَ وأكَلَ مِنَ المَأدُبَة وَرَضيَ عَنْهُ السّيّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدّارَ ولَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ ولَمْ يَرْضَ عَنْهُ السّيّدُ، فالله السّيّدُ، والدّارُ الإسلامُ والمَأدُبَةُ الجَنّةُ، والدّاعِي مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم»...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

...فسميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضاً والملائكة يسلمون عليهم، وقال الحسن: السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم. وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأن من دخلها سلم عليه المولى وذلك أن الله يعلم ما فيه أهل الجنة من ذكر الذنوب والهيبة لعلاّم الغيوب فيبدأهم بالسلام والتحية لهم تقريباً وإيناساً وترحيباً.

قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه فإن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها.

{وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} عمّ بالدعوة إظهاراً لحجته وخصّ بالهداية استغناءً عن خلقه، وقيل: الدعوة إلى الدار عامة لأنها الطريق إلى النعمة وهداية الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

دعاهم إلى دار السلام، وفي الحقيقة دعاهم إلى ما يوجب لهم الوصول إلى دار السلام؛ وهو اعتناق أوامره والانتهاء عن زواجره. والدعاء من حيث التكليف، وتخصيص الهداية لأهلها من حيث التشريف.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} في الآية مسائل:..

المسألة الثانية: لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه: الأول: أن السلام هو الله تعالى، والجنة داره. ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام، وفيه وجوه: أحدها: أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال: {والله الغنى وأنتم الفقراء} وقال: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله}.

وثانيها: أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه، قال: {وما ربك بظلام للعبيد} ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلما. ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج، ولما كان الكل محالا على الله تعالى، كان الظلم محالا في حقه.

وثالثها: قال المبرد: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات. فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين، وهو المجيب لدعوة المضطرين، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين...

القول الثاني: السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات، فالسلام ههنا بمعنى السلامة، كالرضاع بمعنى الرضاعة. فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.

والقول الثالث: أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} والملائكة يسلمون عليهم أيضا، قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم} وهم أيضا يحيي بعضهم بعضا بالسلام قال تعالى: {تحيتهم فيها سلام} وأيضا فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا، قال تعالى: {وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين}

المسألة الثالثة: اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم، فدعوته عبيده إلى دار السلام، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم إذا استعظم شيئا ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء، لا سيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله: {فروح وريحان وجنة نعيم} ونحن نذكر ههنا كلاما كليا في تقرير هذا المطلوب. فنقول: الإنسان إنما يسعى في يومه لغده. ولكل إنسان غدان، غد في الدنيا وغد في الآخرة. فنقول: غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة.

وثانيها: أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم، فإنه لا بد وأن ينتفع به. وثالثها: أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه... وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات.

ورابعها: أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه، وكان ذلك الانتفاع خاليا عن خلط الآفات، إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعا. ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها. فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات، وبين أن الدار التي رضوا بها واطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب، ثابتة بلا زوال، فقال تعالى عاطفاً على قوله {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} ترغيباً في الآخرة وحثاً عليها: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {يدعو} أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام} عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها، يعني بأنها لا عطب فيها أصلاً، والسلامة فيها دائمة، والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء: طلب الفعل بما يقع لأجله، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

لما بين عزّ وجلّ غرور المشركين الجاهلين بمتاع الحياة الدنيا قفى عليه ببيان ما يدعو إليه من سعادة الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها، فقال: {واللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} الجملة عطف على محذوف يدل عليه السياق وقرينة المقابلة، أي ذاك الإيثار لمتاع الدنيا والإسراف والبغي فيه هو ما يدعو إليه الشيطان، فيسوق متبعيه إلى النار- دار الخزي والنكال- والله يدعو عباده إلى دار السلام وهي الجنة.

وفي المراد بالسلام الذي أضيفت إليه الدار وجوه يصح أن تراد كلها:

أولها: أنه السلامة من جميع الشوائب والمصائب والمعايب، والنقائص والأكدار، والعداوة والخصام.

الثاني: أنه تحية الله وملائكته لأهلها، وتحية بعضهم لبعض الدالة على تحابهم وتوادهم، وقد تقدم شرحه قريبا.

ثالثها: أن السلام من أسمائه عزّ وجلّ، وأضيفت دار النعيم إليه تعظيما لشأنها، وهو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل، ويدل على كمال التنزيه والسلامة من كل ما لا يليق برب العالمين الرحمن الرحيم.

وفي بعض الأحاديث إضافة هذه الدار إلى ضمير الذات (داري).

{ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} عطف على ما قبله، أي يدعو كل أحد إلى دخول دار السلام، ويهدي من يشاء إلى الطريق الموصل إليها من غير تعويق؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، وهو الإسلام عقائده وفضائله وعباداته وأحكامه، والهداية في الأصل الدلالة بلطف، وتكون بالتشريع وهو بيانه، وهي عامة، وبالتوفيق للسير عليه والاستقامة الموصلة إلى الغاية، وهي خاصة بالمستعدين لذلك، كما فصلناه في تفسير سورة الفاتحة، وهي المرادة هنا، ولذلك قيدها بالمشيئة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فيا لبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة، وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس.. ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها. حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} ونعلم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة بالمنهج، فمن أخذ المنهج سهل الله تعالى له طريق الصراط المستقيم؛ وبذلك انتقل العبد من مرحلة الهداية بالدلالة إلى الهداية بالمعونة، وحين تقوم القيامة يهديهم الله سبحانه بالنور إلى الجنة: {يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس 9]: إذن: فمن أخذ هداية الله بالدلالة وهي المنهج، واتبع هذا المنهج؛ فالحق سبحانه يجعل له نورا يسعى بين يديه: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم 8]. والحق سبحانه يقول: {ويهدي من يشاء (25)} [يونس]: لأن كل شيء في هذا الكون لا يخرج عن مشيئته سبحانه، فالقوانين لا تحكمه، بل هو الذي يحكم كل شيء. وإذا كان الله قد بين من شاء هدايته، فهو أيضا قد بين لنا من شاء إضلاله بقوله سبحانه: {والله لا يهدي القوم الكافرين (37)} [التوبة]، وقوله سبحانه: {والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)} [التوبة]: إذن: فقد بين الحق سبحانه لنا من الذين يهديهم على الجنة ومن الذين لا يهديهم...