التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

ثم حكى - سبحانه - ما يقوله هؤلاء الكافرون لجوارحهم على سبيل التوبيخ والتعجيب فقال : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا . . }

أى : وقال هؤلاء الكافرون لجلودهم التى تشمل جميع جوارحهم بتعجب وذهول : لماذا شهدتم علينا مع أننا ما دافعنا إلا عنكم ، لكى ننقذكم من النار ؟

وهنا ترد عليهم جوارهم بقولها - كما حكى سبحانه عنها - { قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . . . }

أى : قالوا فى الرد عليهم : أنطقنا الله - تعالى - الذى أنطق كل شئ بقدرته التى لا يعدزها شئ { وهو } - سبحانه - الذى { خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ولم تكونوا شيئا مذكورا .

{ وَإِلَيْهِ } وحده { تُرْجَعُونَ } فيحاسبكم على أعمالكم ، ويحكم فيكم بحكمه العادل .

وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث ، منها ما جاء عن أنس ابن مالك - رضى الله عنه - قال : " ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم فقال : " ألا تسألون عن أى شئ ضحكت " ؟ قالوا : يا رسول الله ، من أى شئ ضحكت ؟ قال : " عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أى ربى ، أليس قد وعدتنى أن لا تظلمنى ؟ قال : بلى . فيقول : فإنى لا أقبل على شاهدا إلا من نفسى . فيقول الله - تعالى - : أو ليس كفى بى شهيدا . وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال : فيردد هذا الكلام مرارا قال : فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل . فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أجادل " " .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا ? قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة ، وإليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ، فأصبحتم من الخاسرين . فإن يصبروا فالنار مثوى لهم . وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين . . )

إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب . وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب . وهم يوصمون بأنهم أعداء الله . فما مصير أعداء الله ? إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع ! إلى أين ? إلى النار ! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب ، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب . إن ألسنتهم معقودة لا تنطق ، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزىء . وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم ، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة ، تروي عنهم ما حسبوه سراً . فقد يستترون من الله . ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم ، ويتخفون بجرائمهم . ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم . وكيف وهي معهم ? بل كيف وهي أبعاضهم ? ! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستوراً عن الخلق أجمعين . وعن الله رب العالمين !

يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي ، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب !

( وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا ? ) . .

فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة :

( قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء )?

أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة ? وإنه لقادر على أن يجعل سواها . وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين .

( وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ) . .

فإليه المنشأ وإليه المصير ، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير .

وهذا ما أنكروه بالعقول . وهذا ما تقرره لهم الجلود !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم : { لم شهدتم علينا } أي وعذابنا عذاب لكم .

واختلف الناس ما المراد بالجلود ؟ فقال جمهور الناس : هي الجلود المعروفة . وقال عبد الله بن أبي جعفر : كنى بالجلود عن الفروج ، وإياها أراد . وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم .

وقوله : { أنطق كل شيء } يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

وإنما قالوا لجلودهم { لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا } دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة . وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ . ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء ، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال ، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب « كنايات الأدباء » فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير .

والاستفهام في قولهم : { لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا } مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها . واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى : { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ] .

وقول الجلود { أنطَقَنَا الله } اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار . وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي . وقولهم : { الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار ، والمعنى : الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها ، فعموم { كُلَّ شَيْءٍ } مخصوص بالعرف .

{ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ ترجعون }

يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيراً بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير ، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله : { وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة . وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم ، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب .

ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضاً بين جملة { وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ } وجملة { فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم } [ فصلت : 24 ] موجهاً من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازاً لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها .

ويكون فعل { تُرْجَعُونَ } مستعملاً في الاستقبال على أصله ، والكلام استدلال على إمكان البعث . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . وتقديم متعلق { تُرْجَعُونَ } عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فلما شهدت عليهم الجوارح {وقالوا لجلودهم} قالت الألسن للجوارح: {لم شهدتم علينا}، يعني الجوارح، قالوا: أبعدكم الله، إنما كنا نجاحش عنكم، فلم شهدتم علينا بالشرك، ولم تكونوا تتكلمون في الدنيا.

{قالوا} قالت الجوارح للألسن: {أنطقنا الله} اليوم {الذي أنطق كل شيء}.

{وهو خلقكم أول مرة} يعني هو أنطقكم أول مرة من قبلها في الدنيا، قبل أن ننطق نحن اليوم.

{وإليه ترجعون}: إلى الله تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم في التقديم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون: لم شهدتم علينا بما كنا نعمل في الدنيا؟ فأجابتهم جلودهم:"أنْطَقَنا اللّهَ الّذِي أَنْطَقَ كُلّ شَيْءٍ" فنطقنا، وذُكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما يسخط الله، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ، قال: أخبرنا عليّ بن قادم الفزاري، قال: أخبرنا شريك، عن عبيد المُكْتِب، عن الشعبيّ، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «ألا تَسْأَلُونِي ممّ ضَحِكْتُ؟» قالوا: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: «عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ العَبْدِ رَبّهُ يَوْمَ القِيامَةِ قال: يقُولُ: يا رَبّ ألَيْسَ وَعَدْتَنِي أنْ لا تَظْلِمَنِي؟ قالَ: فإنّ لَكَ ذلكَ، قال: فإنّي لا أقْبَلُ عَليّ شاهِدا إلاّ مِنْ نَفْسِي، قالَ: أوَلَيْس كَفَى بِي شَهِيدا، وَبالمَلائِكَةِ الكِرَامِ الكاتبين؟ قالَ فَيُخْتَمُ عَلى فِيهِ، وَتَتَكَلّمُ أرْكانُهُ بِمَا كانَ يَعْمَلُ، قالَ: فَيَقُولُ لَهُنّ: بُعْدا لَكُنّ وسُحْقا، عَنْكُنّ كُنْتُ أُجادِلُ»...

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مالي أُمْسِكُ بحَجزِكُمْ مِنَ النّارِ؟ ألا إن رَبّي داعيّ وإنّهُ سائلي هَلْ بَلّغْتُ عِبادَهُ؟ وإنّي قائِلٌ: رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُمْ، فَيُبَلّغ شاهِدُكُمْ غائِبَكُمْ، ثُمّ إنّكُمْ مُدّعُونَ مُقَدّمَةً أفْوَاهُكُمْ بالفِدامِ، ثُمّ إنّ أوّلَ ما يُبِينُ عَنْ أحْدِكَمْ لَفَخِذُهُ وكَفّهُ»...

وقوله: "وَهُوَ خَلَقَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ "يقول تعالى ذكره: والله خلقكم الخلق الأوّل ولم تكونوا شيئا، "وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ" يقول: وإليه مصيركم من بعد مماتكم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... والمعنى: أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه -وإنما قالوا لهم: {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" وقالوا "يعني الكفار "لجلودهم لم شهدتم علينا "وإنما كنا نجادل عنكم" قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء "لما خاطبت وخوطبت أجريت مجرى من يعقل.

قيل:"وهو خلقكم أول مرة "ابتداء كلام من الله.

" وإليه ترجعون" وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله فضحك فقال: (هل تدرون مم أضحك) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجزني من الظلم قال: يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني. قال: يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام قال: فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل) وفي حديث أبي هريرة ثم يقال: (الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق، وذلك الذي سخط الله عليه) خرجه أيضا مسلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قالوا} معتذرين: {أنطقنا} قهراً {الله} الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه. ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا {الذي أنطق كل شيء} أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً.

ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه، نبهوهم على ذلك بقولهم: {وهو خلقكم أول مرة} والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك، فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم. ولما كان الخلق شيئاً واحداً فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال: {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون} أي في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظاً في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب. وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب. وهم يوصمون بأنهم أعداء الله. فما مصير أعداء الله؟ إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع! إلى أين؟ إلى النار! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب. إن ألسنتهم معقودة لا تنطق، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ. وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة، تروي عنهم ما حسبوه سراً. فقد يستترون من الله. ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم، ويتخفون بجرائمهم. ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم. وكيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستوراً عن الخلق أجمعين. وعن الله رب العالمين!

يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب!

(وقالوا لجلودهم: لم شهدتم علينا؟)..

فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة:

(قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)؟

أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة؟ وإنه لقادر على أن يجعل سواها. وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين.

(وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون)..

فإليه المنشأ وإليه المصير، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير.

وهذا ما أنكروه بالعقول. وهذا ما تقرره لهم الجلود!