والمقصود بالقرية فى قوله - تعالى - : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } : قرى الكفار والظالمين ، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين ، فيكون المعنى :
وما من قرية من قرى الظالمين ، إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة بالموت أو الخراب ، أو معذبوها عذابًا شديدًا ، يستأصل شأفتها ، ويقطع دابرها ، كما فعلنا مع قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم .
ومن المفسرين الذين ساروا على ذلك ، الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : هذا إخبار من الله - عز وجل - ، بأنه قد حتم وقضى ، بما كتب عنده فى اللوح المحفوظ ، أنه ما من قرية إلا سيهلكها ؛ بأن يبيد أهلها جميعهم ، أو يعذبهم عذابًا شديدًا ، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال - تعالى - عن الأمم الماضية : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ويرى آخرون ، أن المقصود بالقرية هنا : القرى كلها سواء أكانت للمؤمنين أم للكافرين .
ومن المفسرين الذين ذهبوا إلى ذلك الآلوسى - رحمه الله - فقد قال : قوله - تعالى - : " { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } الظاهر العموم ، لأن { إن } نافية ، و { من } زائدة لاستغراق الجنس . أى : وما من قرية من القرى . { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة } بإماتة أهلها حتف أنوفهم { أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } بالقتل وأنواع البلاء . . وروى عن مقاتل أنه قال : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة . . . " .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن هناك آيات كثيرة تؤيده ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } وقوله - سبحانه - : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } وقوله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ولأن الله - تعالى - قيد الإِهلاك بكونه قبل يوم القيامة ، وكونه كذلك يقتضى أنه للقرى الظالمة . إذ الإِهلاك يوم القيامة يشمل جميع القرى ، سواء أكان أهلها مؤمنين أم كافرين ، بسبب انقضاء عمر الدنيا .
وقوله - سبحانه - : { كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } تأكيد لقضاء الله النافذ ، وحكمه الثابت .
أى : { كان ذلك } الإِهلاك والتعذيب ، فى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ { مسطورًا } أى : مكتوبًا وثابتًا .
قال القرطبى : " { مسطورًا } أى : مكتوبًا . والسطر : الخط والكتابة ، وهو فى الأصل مصدر . والسطر - بالتحريك - مثله ، وجمعه أسطار ، مثل سبب وأسباب ، وجمع السطر - بسكون الطاء - أسطر وسطور مثل أفلس وفلوس . والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ " .
( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا . كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة ، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود . كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقوله تعالى : { وإن من قرية } الآية : أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء ، هذا مع السلامة وأخذها جزءاً أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة فهذا عموم في كل مدينة و { من } لبيان الجنس{[7609]} ، وقيل المراد الخصوص { وإن من قرية } ظالمة{[7610]} ، وحكى النقاش أنه وجد في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية استقراء البلاد المعروفة اليوم ، وذكر الهلاك كل قطر منها صفة ، ثم ذكر نحو ذلك عن وهب بن منبه ، فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش فيها ، وتركت سائرها لعدم الصحة في ذلك ، والمعلوم أن كل قرية تهلك ، إما من جهة القحوط والخسف غرقاً ، وإما من الفتن ، أو منهما ، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل ، فأما ما هلك بالفتنة ، فعن ظلم ولا بد ، إما في كفر أو معاص ، أو تقصير في دفاع ، وحزامة ، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء ، وكذلك الخسف .
وقوله { مهلكوها } الضمير لها ، وفي ضمن ذلك الأهل ، وقوله { معذبوها } هو على حذف مضاف ، فإنه لا يعذب إلا الأهل ، وقوله { في الكتاب } يريد في سابق القضاء ، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ ، و «المسطور » المكتوب إسطاراً .
لما عرضَ بالتهديد للمشركين في قوله : { إن عذاب ربك كان محذورا } [ الإسراء : 57 ] ، وتحداهم بقوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم } [ الإسراء : 56 ] جاء بصريح التهديد على مسمع منهم بأن كل قرية مثل قريتهم في الشرك لا يعدوها عذاب الاستيصال وهو يأتي على القرية وأهلها ، أو عذاب الانتقام بالسيف والذل والأسر والخوف والجوع وهو يأتي على أهل القرية مثل صرعى بدر ، كل ذلك في الدنيا . فالمراد : القرى الكافرُ أهلُها لقوله تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } في سورة [ هود : 117 ] ، وقوله : { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } في سورة [ القصص : 59 ] .
وحذف الصفة في مثل هذا معروف كقوله تعالى : { يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] أي كل سفينة صالحة ، بقرينة قوله : { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] .
وليس المقصود شمول ذلك القرى المؤمنة ، على معنى أن لا بد للقرى من زوال وفناء في سنة الله في هذا العالم ، لأن ذلك معارض لآيات أخرى ، ولأنه مناف لغرض تحذير المشركين من الاستمرار على الشرك .
فلو سلمنا أن هذا الحكم لا تنفلت منه قرية من القرى بحكم سنّة الله في مصير كل حادث إلى الفناء لما سلمنا أن في ذكر ذلك هنا فائدة .
والتقييد بكونه قبل { يوم القيامة } زيادة في الإنذار والوعيد ، كقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 127 ] .
و ( من ] مزيدة بعد ( إنْ ) النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة ، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهلُ مكة عدم شمولهم .
والكتاب : مستعار لعلم الله وسابق تقديره ، فتعريفه للعهد ؛ أو أريد به الكتب المنزلة على الأنبياء ، فتعريفه للجنس فيشمل القرآن وغيره .
والمسطور : المكتوب ، يقال : سطر الكتاب إذا كتبه سطوراً ، قال تعالى : { والقلم وما يسطرون } [ القلم : 1 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.