ثم حذر الله - تعالى - أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين فقال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
الإِشارة ب { تِلْكَ } إلى إبراهيم وبنيه ، أي أن إبراهيم وذريته ، أمة قد مضت وانقرضت ، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر ، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها ، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي هو دعوة إبراهيم - عليه السلام - وعلى دينه وملته .
فالآية الكريمة واردة لتقرير سنة من سنن الله العامة في خلقه وهي أن لكل نفس وحدها ثواب ما كسبت من خير وعليها وحدها يقع عقاب ما اكتسبت من شر . وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت بوضوح لبني إسرائيل وغيرهم أن ملة إبراهيم الإِسلام وأنه هو ويعقوب - عليهما السلام - قد أوصيا أبناءهما بأن يثبتوا على هذه الملة حتى الموت ، وأن أبناء يعقوب قد عاهدوه عند موته أن يستمروا على ملته وملة إبراهيم عليهما السلام .
وهذا الذي بينته الآيات الكريمة يطابق ما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإِيمان بالله - تعالى - وتصديق رسوله واتباع تعاليم الإِسلام .
وفي القرآن الكريم آيات أخرى صرحت بأن الإِسلام اسم للدين الذي دعا إليه كل الأنبياء ، وانتسب إليه أتباعهم فنوح قال لقومه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } وموسى قال لقومه : { ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } والحواريون قالوا لعيسى - عليه السلام - { آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } بل إن فريققا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن أشرقت قلوبهم لدعوته وقالوا : { آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } وإلى هنا تكون قد ذكرنا بعض الآيات الكريمة التي أرشدت إلى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يطابق ما جاء به الأنبياء السابقون ، فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوا ، لأن كفرهم به كفر بجميع الرسل السابقين .
وقبل أن نختم هذا الموضوع ننبه إلى مسألة مهمة . وهي أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يطابق - كما قلنا - ما جاء به الأنبياء قبله في أصول الدين وكلياته كتوحيد الله - تعالى - واختصاصه بالعبادة ، وتصديق الأنبياء السابقين فيما أتوا به عن الله - تعالى - والإيمان بالبعث وما يكون فيه من نعيم وعذاب والحض على مكارم الأخلاق ، أما ما عدا ذلك مما يتعلق بتفاصيل العبادات وأحكام المعاملات فإن الشرائع تختلف فيه بوجه عام حسب ما يتناسب وحالة الأمة التي بعث الله لها رسولا من كما قال تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ومن هنا جاءت الشريعة الإِسلامية بما لم يكن موجوداً في الشرائع السابقة ، ومن مظاهر ذلك أن القرآن الكريم أعلن للناس ، أن محمداً صلى الله عليه وسلم من مميزات شريعته أنها أحلت للناس كل الطيبات وحرمت عليهم كل الخبائث ووضعت عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وشرعت لهم أموراً تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم امتازت باليسر والتخفيف .
ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز : ( يجب أن يفهم - أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة - ليس نفضاً لها ، وإنما وقوفاً بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر .
مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته ، فقصر غذاءه على اللبن ، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاماً ليناً ، وطعاما نشوياً خفيفاً ، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوي كامل .
لا ريب أن ها هنا اعترافاً ضمنياً من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقاً كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه ، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها ، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل ، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين .
هكذا الشرائع السماوية ، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها ، وكلها يصدق بعضها بعضاً من ألفها إلى يائها ، ولكن هذا التصديق على ضربين .
تصديق للقديم مع الإِذن ببقائه واستمراره ، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية ، ذلك أن التشريعات السماوية تحتوي على نوعين من التشريعات .
( تشريعات خالدة ) لا تتبدل بتبديل الأصقاع والأوضاع ( كالوصايا التسع ونحوها ) .
و ( تشريعات موقوتة ) بآجال طويلة أو قصيرة ، فهذه تنتهي بانتهاء وفنها . وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة .
فشريعة التوراة - مثلا - عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك ( لا تقبل ) . ( لا تسرق ) فطابعها البارزتحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة .
وشريعة الإِنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه الأمور ، ثم تترقى فتزيد آداباً مكملة ( أحسن إلى من أساء إليك ) .
وأخيراً تجئ شريعة القرآن فتراها تقرر كلا المبدأين في نسق واحد { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع . وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أن أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير فقال : " مثلى ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسن وجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة . فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " .
وبذلك يتبين لنا أن مطابقة الشريعة الإسلامية لغيرها من الشرائع السابقة إنما هي في الأصول والكليات ، لا في الفروع والجزئيات .
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت ، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة . . حيث لا مجال لصلة ، ولا مجال لوراثة ، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين :
( تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ) . .
فلكل حساب ؛ ولكل طريق ؛ ولكل عنوان ؛ ولكل صفة . . أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين . إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف . هؤلاء حزب وأولئك حزب . لهؤلاء راية ولأولئك راية . . والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي . . فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل ، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب . أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق ؛ فليسا أمة واحدة ، وليس بينهما صلة ولا قرابة . . إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله ، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين . إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض ؛ وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة . وهذا هو التصور اللائق بالإنسان ، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية ، لا من التصاقات الطين الأرضية !
{ تلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }( 134 )
وقوله تعالى : { قد خلت } في موضع رفع نعت لأمة ، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض ، ويعنى بالأمة الأنبياء المذكورون ، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى ، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية ، ذلك لا ينفعكم ، لأن كل نفس { لها ما كسبت } من خير وشر ، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شراً( {[1307]} ) ، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد ، { ولا تسألون عما كانوا يعملون } فتنحلوهم ديناً .
عقبت الآيات المتقدمة من قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذراً لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فإن لنا من فضل آبائنا مسلكاً لنجاتنا ، فذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال .
والإشارة بتلك عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو أمة .
والأمة تقدم بيانها آنفاً عند قوله تعالى : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] .
وقوله : { قد خلت } صفة لأمة ومعنى خلت مضت ، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة المبالغة ، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به ، ولذا فقوله : { لها ما كسبت } الآية بدل من جملة { قد خلت } بدل مفصل من مجمل .
والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم ، فقوله : { لها ما كسبت } تمهيد لقوله : { ولكم ما كسبتم } إذ هو المقصود من الكلام ، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم ، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه .
ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب .
وتقديم المسندين على المسند إليهما في { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم ، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو يحمله عنهم أسلافهم .
وقوله : { ولا تسألون عما كانوا يعملون } معطوف على قوله : { لها ما كسبت } وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت ، فإن جعلت { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } خاصاً بالأعمال الصالحة فقوله : { ولا تسألون } إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من الإثم ولذا عبر هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل . وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير :
لعمري لنِعْمَ الحيُّ جَرَّ عليهم *** بما لا يُواتيهم حُصَين بن ضَمْضمِ
فنفي أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين ، وإن جعلت قوله : { ولكم ما كسبتم } مراداً به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله : { ولا تسألون } إلخ احتراساً واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه ، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم .