ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المستجيبين للحق ، السالكين الطريق المستقيم ، فقال : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } .
أى : أن الله - تعالى - قد ارسل إلى الناس رسوله وأنزل عليهم بواسطته قرآنه ، فمنهم من آمن واهتدى ، ومنهم من كفر وغوى ، فأما الذين آمنوا بالله - تعالى - حق الإِيمان ، واعتصموا به - سبحانه - مما يضرهم ويؤذيهم ، فلم يستجيروا إلا به ، ولم يخضعوا إلا له ، ولم يعتمدوا إلا عليه .
هؤلاء الذين فعلوا ذلك سيدخلهم الله - تعالى - فى رحمة منه وفضل أى سيدخلهم فى جنته ورضوانه ، ويضفى عليهم من فضله وإحسانه بما يشرح صدورهم ، ويبهج نفوسهم ، ويصلح بالهم .
وقوله { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أى : ويوفقهم فى دنياهم إلى سلوك الطريق الحق وهو طريق الإِسلام ، الذى يفضى بهم فى آخرتهم إلى السعادة والأمان والفوز برضا الله - عز وجل - .
وقد ذكرت الآية ثواب الذين آمنوا بالله واعتصموا به ، ولم تذرك عقاب الذين كفروا إهمالا لهم ، لأنهم فى حيز الطرد والطرح ، أو لأن عاقبتهم السيئة معروفة لكل عاقل بسب كفرهم وسوقهم عن أمر الله .
والسين فى قوله { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } للتأكيد . أى فسيدخلهم فى رحمة كائنة منه وفى فضل عظيم من عنده إدخالا لا شك فى حصوله ووقوعه .
وقوله { صِرَاطاً } مفعول ثان ليهدى لتضمنه معنى يعرفهم .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت أهل الكتاب عن المغالاة فى شأن عيسى - عليه السلام - ، وعرفتهم حقيقته ، ودعتهم إلى الإِيمان بوحدانية الله ، وبينت لهم ولغيرهم أن عيسى وغيره من الملائكة المقربين لن يستنكفوا عن عبادة الله ، وان من امتنع عن عابدة الله فسيحاسبه - سبحانه - حسابا عسيرا ، ويجازيه بما يستحقه من عقاب . أما من آمن بالله - تعالى - واتبع الحق الذى أنزله على رسله ، فسينال منه - سبحانه - الرحمة الواسعة ، والفضل العظيم ، والسعادة التى ليست بعدها سعادة .
( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا ) . .
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به . . متى صح الإيمان ، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له . فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده . وهو صاحب السلطان والقدرة وحده . . وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل . رحمة في هذه الحياة الدنيا - قبل الحياة الأخرى - وفضل في هذه العاجلة - قبل الفضل في الآجلة - فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود . كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه ؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة - كما أسلفنا - حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته . عبد لله وسيد مع كل من عداه . . وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان - كما جاء به الإسلام - هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . حين يوحد الألوهية ؛ ويسوي بين الخلائق جميعا في العبودية . وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده ؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله ، فيكون عبدا له مهما تحرر !
فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل ، في حياتهم الحاضرة ، وفي حياتهم الآجلة سواء . .
ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا . .
وكلمة ( إليه ) . . تخلع على التعبير حركة مصورة . إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة ؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة . . وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة ، فيعتصم به على ثقة . . حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي ؛ وتتنضح أمامه الطريق ؛ ويقترب فعلا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم .
ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله ، المعتصمين به ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على القرآن الذي تضمنه قوله تعالى : { نوراً مبيناً } و «الاعتصام » به التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به ، فهو يعصم كما تعصم المعاقل ، وهذا قد فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم » و «الرحمة » و «الفضل » : الجنة وتنعيمها ، { ويهديهم } ، معناه : إلى الفضل ، وهذه هداية طريق الجنان ، كما قال تعالى : { سيهديهم ويصلح بالهم }{[4391]} لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه ، و { صراطاً } نصب بإضمار فعل يدل عليه { يهديهم } ، تقديره فيعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول الثاني : إذ { يهديهم } في معنى يعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب على ظرفية «ما » ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في { إليه } وقيل : من [ فضل ] والصراط : الطريق وقد تقدم تفسيره .
( أمّا ) في قوله : { فأما الذين آمنوا بالله } يجوز أن يكون للتفصيل : تفصيلاً لِمَا دَلّ عليه { يا أيها الناس } من اختلاف الفرق والنزعات : بين قابل للبرهان والنّور ، ومكابر جاحد ، ويكون مُعادل هذا الشقّ محذوفاً للتهويل ، أي : وأمَّا الذين كفروا فلا تسل عنهم ، ويجوز أن يكون ( أمّا ) لمجرد الشرط دون تفصيل ، وهو شرط لِعموم الأحوال ، لأنّ ( أمّا ) في الشرط بمعنى ( مَهما يكُنْ من شيء ) وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب معادلاً .
والاعتصام : اللوْذ ، والاعتصام بالله استعارة لللوذ بدينه ، وتقدّم في قوله { واعتصموا بحبل الله جميعاً } في سورة آل عمران ( 103 ) . والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى .
وقوله : ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } : تعلَّق الجار والمجرور ب ( يهدي ) فهو ظرف لَغو ، و { صراطاً } مفعول ( يهدي ) ، والمعنى يهديهم صراطاً مستقيماً ليصلوا إليه ، أي إلى الله ، وذلك هو متمنّاهم ، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.