ثم زجر - سبحانه - الذين يكذبون بيوم الدين ، ويؤثرون العاجلة على الآجلة ، زجَرهم بلون آخر من ألوان الردع والزجر ، حيث ذكرهم بأحوالهم الأليمة عندما يودعون هذه الدنيا فقال : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق } .
والضمير فى { بَلَغَتِ } يعود إلى الروح المعلومة من المقام . كما فى قوله - تعالى - { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم . . } ومنه قول الشاعر :
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى . . . إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
والتراقى : جمع تَرْقُوه ، وهى العظام المحيطة بأعالى الصدر عن يمينه ، وعن شماله ، وهى موضع الحشرجة ، وجواب الشرط محذوف .
أى : حتى إذا بلغت روح الإِنسان التراقى ، وأوشكت أن تفارق صاحبها . . وجد كل إنسان ثمار عمله الذى عمله فى دنياه ، وانكشفت له حقيقة عاقبته .
والمقصود من الآية الكريمة وما بعدها : الزجر عن إيثار العاجلة على الآجلة . فكأنه - تعالى - يقول : احذروا - أيها الناس - ذلك قبل أن يفاجئكم الموت ، وقبل أن تبلغ أرواحكم نهايتها ، وتنقطع عند ذلك آمالكم .
وإذا كانت مشاهد القيامة . . إذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، وقال الإنسان يومئذ أين المفر . ولا مفر . وإذا اختلفت المصائر والوجوه ، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد ، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة . .
إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس ، من قوة الحقيقة الكامنة فيها ، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها ، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور ، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل !
إنه مشهد الموت . الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي . الموت الذي يفرق الأحبة ، ويمضي في طريقه لا يتوقف ، ولا يتلفت ، ولا يستجيب لصرخة ملهوف ، ولا لحسرة مفارق ، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف ! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء ! الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه :
( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ? وظن أنه الفراق ، والتفت الساق بالساق . إلى ربك يومئذ المساق ) . .
إنه مشهد الاحتضار ، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر ، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة !
( كلا إذا بلغت التراقي ) . . وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير ، وتكون السكرات المذهلة ، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار . .
وقوله تعالى : { كلا إذا بلغت } زجر آخر لقريش وتذكير لهم بموطن من مواطن الهول وأمر الله تعالى الذي لا محيد لبشر عنه وهي حالة الموت والمنازعة التي كتبها الله على كل حيوان ، و { بلغت } يريد النفس ، و { التراقي } ترقوة وهي عظام أعلى الصدر ، ولكل أحد ترقوتان ، لكن من حيث هذا الأمر في كثير من جمع ، إذ النفس المرادة اسم جنس ، و { التراقي } هي موازية للحلاقيم ، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الموت ، يسره الله علينا بمة .
ردع ثان على قول الإِنسان { أيَّانَ يوم القيامة } [ القيامة : 6 ] ، مؤكِّد للردع الذي قبله في قوله : { كَلاَّ بل تحبّون العاجلة } [ القيامة : 20 ] . ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله : { إلى ربك يومئذٍ المَساق } أُتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيُّؤِ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى .
وعن المغيرة بن شعبة يقولون : القيامة القيامةُ ، وإنما قيامة أحدهم موته ، وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال : « أمَّا هذا فقد قامت قيامته » ، فحالة الاحْتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يَعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرةً .
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل : ارتدعوا وتنبهوا على ما بَيْن أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة ، فيكون ردعاً على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة ، فليس مؤكداً للردع الذي في قوله : { كلا بل تحبون العاجلة } [ القيامة : 20 ] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة .
و { إذا بلغت التراقي } متعلق بالكون الذي يُقدر في الخبر وهو قوله : { إلى ربك } . والمعنى : المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي .
وجملة { إلى ربك يومئذٍ المساق } بيان للردع وتقريب لإِبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله : { يسأل أيّان يوم القيامة } [ القيامة : 6 ] .
و { إذا } ظرف مضمن معنى الشرط ، وهو منتصب بجوابه أعني قوله : { إلى ربك يومئذٍ المساق } .
وتقديم { إلى ربك } على متعلقه وهو { المساق } للاهتمام به لأنه مناط الإِنكار منهم .
وضمير { بلغت } راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل { بلغَتْ } ومن ذكر { التراقي } فإن فعل { بلغت التراقي } يدل أنها روح الإنسان . والتقدير : إذا بلغت الروحُ أو النفس . وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان ، ومثله قول حاتم الطائي :
أمَاوِيَّ ما يغني الثَّراء عن الفتى *** إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بهَا الصدر
أي إذا حشرجت النفس . ومن هذا الباب قول العرب « أرْسَلَتْ » يريدون : أرسلت السماء المطر ، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع .
والأنفاسُ : جمع نفَس ، بفتح الفاء ، وهو أنسب بالحقائق .
و { التراقي } : جمع تَرْقُوة ( بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث ) وهي ثُغرة النحر ، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله .
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أُمِن اللبس ، لأن في تثنية ترقوة شيئاً من الثقل لا يناسب أفصح كلام ، وهذا مِثل ما جاء في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } في سورة [ التحريم : 4 ] .
ومعنى { بلغتْ التراقي } : أن الروح بلغت الحُنْجُرة حَيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلاّ في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار ، ومثله قوله تعالى :
{ فلولا إذا بلغت الحُلقوم } الآية [ الواقعة : 83 ] .
واللام في { التراقي } مثل اللام في المساق فيقال : هي عوض عن المضاف إليه ، أي بلغت روحه تَرَاقِيَه ، أي الإِنساننِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.