{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } والمراد بالإِنسان هنا - أيضا - جنسه وجميع أفراده .
و " أمشاج " بمعنى أخلاط من عناصر شتى ، مشتق من المشج بمعنى الخلط ، يقال : مشجي فلان بين كذا وكذا - من باب ضرب - إذا خلط ومزج بينهما ، وهو جمع مشَج - كسب ، أو مَشِج - ككتف ، أو مشيج - كنصير .
قال الجمل : " أمشاج " نعت لنطفة . ووقع الجمع صفة لمفرد ، لأنه فى معنى الجمع ، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصف بالجمع . .
ويرى صاحب الكشاف أن لفظ " أمشاج " مفرد جاء على صيغة أفعال ، كلفظ أعشار فى قولهم : برمة أعشار ، أى : برمة متكسرة قطعا قطعا ، وعليه يكون المفرد قد نعت بلفظ مفرد مثله .
فقال قال - رحمه الله - : { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار . . وهى ألفاظ مفردة غير جموع .
والذلك وقعت صفات للأفراد ، والمعنى : من نطفة قد امتزج فيها الماءان . .
وجملة " نبتليه " حال من الإِنسان ، أنو من فاعل " خلقنا " .
أى : إنا خلقنا الإِنسان بقدرتنا وحدها . " من نطفة " أى : من مَنِىٍّ ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، " أمشاج " أى : ممتزج أحدهما بالآخر امتزاجا تاما .
أو خلقنا من نطفة مختلطة بعناصر متعددة ، تتكون منها حياة الإِنسان بقدرتنا وحمكتنا .
وهلقناه كلذلك حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف ، فى مستقبل حياته حين يكون أهلا لهذه التكاليف .
{ فَجَعَلْنَاهُ } بسبب إرادتنا ابتلاءه واختباره بالتكاليف مزودات بوسائل الإِدراك ، التى بواسطتها بسمع الحق ويبصره ويستجيب له ويدرك الحقائق والآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا . . إدراكا سليما ، متى اتبع فطرته ، وخالف وساوس الشيطان وخطواته .
وخص - سبحانه - السمع والبصر بالذكر ، لأنهما أنفع الحواس للإِنسان ، إن عن طريق السمع يتلقى دعوة الحق وما اشتملت عليه من هدايات ، وعن طريق البصر ينظر فى الأدلة المتنوعة الكثيرة التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وعلى صدق أنبيائه فيما جاءوا به من عند ربهم .
فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى :
( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .
والأمشاج : الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علميا " الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . .
خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج ، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية ، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو ? وما اختباره ? وما ثمرة اختباره ? ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود ، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود ، وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه .
ومن ثم جعله سميعا بصيرا . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . .
وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها ، وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة ، والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار !
وقوله تعالى : { إنا خلقنا الإنسان } هو هنا اسم الجنس بلا خلاف ، لأن آدم لم يخلق { من نطفة } ، و { أمشاج } معناه أخلاط وأحدها مَشَج بفتح الميم والشين قاله ابن السكيت وغيره ، وقيل : مشج مثل عدل وأعدال ، وقيل : مشيج مثل شريف وأشراف ، واختلف في المقصود من الخلط ، فقيل هو { أمشاج } ماء الرجل بماء المرأة ، وأسند الطبري حديثاً وهو أيضاً في بعض المصنفات «إن عظام ابن آدم وعصبة من ماء الرجل ، ولحمه وشحمه من ماء المرأة » وقيل هو اختلاط أمر الجنين بالنقلة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى غير ذلك . فهو أمر مختلط ، وقيل هو اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء فيه ، و { نبتليه } معناه نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا هو حال من الضمير في { خلقنا } كأنه قال : مختبرين له بذلك ، وقوله تعالى : { فجعلناه } عطف جملة تعم على جملة تعم ، وقال بعض النحويين إنما المعنى فنبتليه جعلناه { سميعاً بصيراً } ، ثم ترتب اللفظ موجزاً متداخلاً كأنه قال { نبتليه } فلذلك جعلناه ، والابتلاء على هذا أنما هو بالإسماع والإبصار لا بالإيجاب وليس { نبتليه } حالاً .
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه { هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الإنسان : 1 ] لما فيه من التشويق .
والتقرير يقتضي الإِقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة ، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له : إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً ، فثبت تعلُّق الخلق بالإِنسان بعد عدمه .
وتأكيد الكلام بحرف ( إنَّ ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإِنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم .
والمراد ب { الإنسان } مثل ما أريد به في قوله : { هل أتى على الإنسان } [ الإنسان : 1 ] أي كل نوع الإِنسان .
وأُدمج في ذلك كيفية خلق الإِنسان من نطفة التناسِل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة .
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة .
و { أمشاج } : مشتق من المشج وهو الخلط ، أي نطفة مخلوطة قال تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [ يس : 36 ] وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا .
وصيغة { أمشاج } ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد ، فهي إما جمع مِشْج بكسر فسكون بوزن عِدْل ، أي ممشوج ، أي مخلوط مثل ذِبح ، وهذا ما اقتصر عليه في « اللسان » و« القاموس » ، أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سَبب وأسباب ، أو جمع مَشِج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف .
والوجه ما ذهب إليه صاحب « الكشاف » : أن { أمشاج } مفرد كقولهم : بُرمة أعشار وبُرد أكياش ( بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين ) . قال : « ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مَشَج بل هما ( أي مَشج وأمشاج ) مِثلان في الإِفراد اه . وقال بعض الكاتبين : إنه خالف كلام سيبويه . وأشار البيضاوي إلى ذلك ، وأحسب أنه لم يَر كلام سيبويه صريحاً في منع أن يكون { أمشاج } مفرداً لأن أثبت الإِفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه .
فإذا كان { أمشاج } في هذه الآية مفرداً كان على صورة الجمع كما في « الكشاف » . فوصف { نطفة } به غير محتاج إلى تأويل ، وإذا كان جمعاً كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد ، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص ، ( فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضواً ) فوصفُ النطفة يجمع الاسم للمبالغة ، أي شديدة الاختلاط .
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة .
وجملة { نبتليه } في موضع الحال من الإِنسان وهي حال مقدرة ، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل ، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف ، وهذه الحال كقولهم : مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً .
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة { خلقنا } وبين { فجعلناه سَميعاً بصيراً } لأن الابتلاء ، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع { نبتليه } بعد جملة { إنا هديناه السبيل } [ الإنسان : 3 ] ، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة .
وجيء بجملة { إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه } تفنناً في نظم الكلام .
وحقيقة الابتلاء : الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته .
وفُرع على خلقه { من نطفة } أنه جعله { سميعاً بصيراً } ، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره ، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه : سامعاً مبصراً ، لأن سمع الإِنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان ، فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه .
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإِنسانَ من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإِنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته ، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله : { إنا هديناه السبيل الآيات .