وبعد أن أرشد - سبحانه - أهل الكتاب إلى الطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسلكوه ، عقب ذلك ببيان ما عليه النصارى من ضلال وبطلان فقال :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ . . . }
اللام في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر .
والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره ، والانغماس في الباطل والضلال . والمعنى : أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم .
قال بعض العلما ما ملخصه : " لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي " وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهي فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه . ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ومهما يكون فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه . وقد قال في ذلك البيضاوي : " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم . وقيل : لم يصرح به أحد منهم . ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا : لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " .
وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك ، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الأولوهية فيه مع الله .
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله - تعالى - في أواخر هذه السورة { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم .
والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة . وأنها شيء واحد . وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو روح القدس . فقد قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس : " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هي : الله الأب ، والله الإِبن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطهير . غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء . أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم ، كما هي في العهد الجديد .
وفي هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه . فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب ، كما أن الله هو روح القدس .
هذا ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال - تعالى - :
{ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } .
أي : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء النصارى الذين قالوا : { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ والتجهيل : من ذا الذي يملك من أمر الله وإرادته شيئاً يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد الله - سبحانه - أن يهلكهم ويبيدهم ؟ لا شك أن أحد لن يستطيع أن يمنع إرادته - سبحانه - لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئاً يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده ؛ أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه .
وما دام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان ، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها . وحاشا للمخلوق الفاني أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقي { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " احتج - سبحانه - على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط .
والتقدير : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره . وقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } أي : فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة . يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله - تعالى - ومنع شيء من مراده .
وقوله : { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } يعني : أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلم كونه - تعالى - خالقا للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى .
وفي توجيه الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذي آمنوا به .
قال أبو السعود : وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن أحد مع تحقيق الإِلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط ، لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه - سبحانه - وإثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني .
وتعميم إرادة الإِهلاك للكل - مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح - لتهويل الخطب ، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره - تعالى - وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلا عن دفع ما أريد بغيره .
وللإِيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك ، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز ، وعدم استحقاق الألوهية .
وتخصيص الأم بالذكر مع اندارجها في عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما .
وعطف عليهما قوله { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } من باب عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين . مرة بالنص عليهما . ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإِرادة فيهما .
وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } تأكيد لاختصاص الألوهية به - تعالى - إثر بيان انتفائها عما سواه .
أي : والله - تعالى - وحده دون أن ينازعه منازع . أو يشاركه مشارك ، ملك جميع الموجودات ، والتصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماته . فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها ، ولما بينهما من فضاء تجري فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته . وما المسيح وأمه إلا من جملة ما في الأرض ، فهما عبدان من عباد الله يدينان له - سبحانه - بالعبادة والطاعة والخضوع .
وقال - سبحانه - { وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع ، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان .
أي : ولله - تعالى - وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاخضعة لمشيئة الله وقدرته .
وقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه في أمر المسيح لولادته من غير أب ، وإحيائه الموتى ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، كل ذلك بإذن الله .
أي أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التي يريدها تبعا لمشيئته وإرداته .
فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس ، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن في خلق آدم ، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن في خلق عيسى ، إلى ذلك من مخلوقاته التي ليست مقصورة على نوع واحد بل هي شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد ، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده ، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أي : والله - تعالى - قدير على كل شيء ومالك لكل شيء ومهيمن على كل شيء لا يغلبه شيء طلبه ، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده ، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله - عز وجل - .
فهذه الآية الكريمة تحكي أقوال النصارى الباطلة في شأن عيسى - عليه السلام - وترد عليهم بما يزهق باطلهم ، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار .
ذلك هو الصراط المستقيم . فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر ؛ وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه ، فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل . . وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب ، التي تخفي نصاعة التوحيد ؛ والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها ، ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها :
( لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . قل : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ) . .
إن الذي جاء به عيسى - عليه السلام - من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول .
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول . . ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات ؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد ، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .
ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة ؛ ولكنها دخلت على فترات ؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى ؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير ، الذي تحار فيه العقول . حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها !
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم . وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولا من عند الله . ثم وقعت بينهم الاختلافات . فمن قائل : إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل . ومن قائل : إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل : إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب ، ولكنه على هذا مخلوق لله . ومن قائل : إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب . .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية " مجمع نيقية " الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة . قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية :
" وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله . وهم " البربرانية " . . ويسمون : " الريمتيين " . ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . وهي مقالة " سابليوس " وشيعته . ومنهم من كان يقول : لم تحبل به مريم تسعة أشهر ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ، لأن الكلمة دخلت في أذنها ، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها . وهي مقالة " إليان " وأشياعه . ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية ، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي " ابن الله " ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد ، وأقنوم واحد ، ويسمونه بثلاثة أسماء ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بروح القدس . وهي مقالة " بولس الشمشاطي " بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم " البوليقانيون " . ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح ، وطالح ، وعدل بينهما . وهي مقالة " مرقيون " اللعين وأصحابه ! وزعموا أن " مرقيون " هو رئيس الحواريين وأنكروا " بطرس " . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح . وهي مقالة " بولس الرسول " ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا . .
وقد اختار الإمبراطور الروماني " قسطنطين " الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية ! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم ، وشرد أصحاب سائر المذاهب ؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده ، وناسوتية المسيح .
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه :
" إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه . وأنه لم يوجد قبل أن يولد . وأنه وجد من لا شيء . أو من يقول : إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب . وكل من يؤمن أنه خلق ، أو من يقول : إنه قابل للتغيير ، ويعتريه ظل دوران " .
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع " آريوس " وقد غلبت على القسطنطينية ، وأنطاكية ، وبابل ، والإسكندرية ، ومصر .
ثم سار خلاف جديد حول " روح القدس " فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون : ليس بإله ! فاجتمع " مجمع القسطنطينية الأول " سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع ، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية :
" قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية : ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله . وليس روح الله شيئا غير حياته . فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق ، فقد قلنا : إن روح الله مخلوق . وإذا قلنا : إن روح الله مخلوق ، فقد قلنا : إن حياته مخلوقة . وإذا قلنا : إن حياته مخلوقة ، فقد زعمنا أنه غير حي . وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به . ومن كفر به وجب عليه اللعن " ! ! !
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع ، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية . وتم " الثالوث " من الآب . والابن . وروح القدس . .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية . . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون . . فقد رأى " نسطور " بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة . فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ؛ وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم ، فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله ! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق :
" إن هذا الإنسان الذي يقول : إنه المسيح . . بالمحبة متحد مع الابن . . ويقال : إنه الله وابن الله ، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة " . .
ثم يقول : " إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة ، أو هو ملهم من الله ، فلم يرتكب خطيئة ، وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه ، وبطريرك الإسكندرية ، وأساقفة أنطاكية ، فاتفقوا على عقد مجمع رابع . وانعقد " مجمع أفسس " سنة 431 ميلادية . وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق - :
" أن مريم العذراء والدة الله . وأن المسيح إله حق وإنسان ، معروف بطبيعتين ، متوحد في الأقنوم " . . ولعنوا نسطور !
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد ، انعقد له " مجمع أفسس الثاني " وقرر :
" أن المسيح طبيعة واحدة ، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت " .
ولكن هذا الرأي لم يسلم ؛ واستمرت الخلافات الحادة ؛ فاجتمع مجمع " خلقيدونية " سنة 451 وقرر :
" أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة . وأن اللاهوت طبيعة وحدها ، والناسوت طبيعه وحدها ، التقتا في المسيح " . . ولعنوا مجمع أفسس الثاني !
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع . ووقعت بين المذهب المصري " المنوفيسية " والمذهب " الملوكاني " الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية ، التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة : " سير . ت . و . أرنولد " في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " في مطالع تفسير سورة آل عمران . .
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف ، وما تزال إلى اليوم ثائرة . .
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية ؛ ولتقول كلمة الفصل ؛ ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة :
لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . . ( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ) . .
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع :
( قل : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ، وأمه ، ومن في الأرض جميعا ) .
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه ، وبين ذات عيسى - عليه السلام - وذات أمه ، وكل ذات أخرى ، في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة ، وسلطانه متفرد ، ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا . .
وهو - سبحانه - مالك كل شيء ، وخالق كل شيء ، والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق :
( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء ، والله على كل شيء قدير ) . .
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ، ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية . في تقرير حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين . بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . .
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } هم الذين قالوا بالاتحاد منهم ، وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا وقالوا لا إله إلا الله واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم . { قل فمن يملك من الله شيئا } فمن يمنع من قدرته وإرادته شيئا . { إن أراد أن يهلك المسيح } عيسى . { ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } احتج بذلك على فساد عقولهم وتقريره : أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية . { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير } إزاحة لما عرض لهم من الشبهة في أمره ، والمعنى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السماوات والأرض ، ومن أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات ، ومن أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى ، أو منهما كسائر الناس .
هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى . كان أعظمَ ضلال النّصارى ادّعاؤُهم إلهيّة عيسى عليه السلام ، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم ، فاستأنف هذه الجملة { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } استئنافَ البيان . وتعيَّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال ، لأنّ ظلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفراً .
وحُكي قولهم بما تؤدّيه في اللغة العربيّة جملة { إنّ الله هو المسيحُ ابن مريم } ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسّرون حَقّه من بيان انتزاع المعنى المراد به ، من تركيبه ، من الدلالة على اتّحاد مسمّى هذين الاسمين بطريق تعريف كلّ من المسند إليه والمسند بالعلَمية بقرينة السياق الدالّة على أنّ الكلام ليس مقصوداً للإخبار بأَحداث لِذواتٍ ، المسمّى في الاصطلاح : حملَ اشتقاق بل هو حمل مواطأة ، وهو ما يسمّى في المنطق : حمل ( هُوَ هُوَ ) ، وذلك حين يكون كلّ من المسند إليه والمسند معلوماً للمخاطب ويراد بيان أنّها شيء واحد ، كقولك حين تقول : قال زياد ، فيقول سامعك : من هو زياد ، فتقول : زياد هو النّابغة ، ومثله قولك : ميمون هو الأعشى ، وابن أبي السّمْط هو مروان بن أبي حَفْصة ، والمُرعَّث هو بشّار ، وأمثال ذلك . فمجرّد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتّحاد ، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلّف قصداً لتأكيد الاتّحاد ، فليس في مثل هذا التّركيب إفادةُ قصر أحد الجزأين على الآخر ، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئاً سوى التّأكيد . وكذلك وجود حرف ( إنّ ) لزيادة التّأكيد ، ونظيره قول رُوَيشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة :
وَقُلْ لَهم بَادِروا بالعُذر والتمسوا *** قولاً يبرئكم إنّي أنَا الموت
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه ، وهو الأصحّ ؛ أو العكس ، وهو قليل ، لأنّ مقام اتّحاد المسمَّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر . وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب « الكشّاف » عقب قوله : { الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } « معناه بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير » . ومحلّ الشاهد من كلام « الكشّاف » ما عدا قوله ( لا غير ) ، لأنّ الظاهر أن ( لا غير ) يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب ، وهو بعيد . وقد يقال : إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئاً عن صيغة قصر .
ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد ، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى .
ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه ، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح .
وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد ، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى . وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول . وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل ، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد ، هو مجموع ثلاثة أقانيم ( جمع أقنوم بضمّ الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها : الأصل ، كما في القاموس ؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات ، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة ، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب : مذهب المَلْكانِيَّة وهم الجاثلقية ( الكاثوليك ) ، ومذهب النَّسْطُورية ، ومذهب اليَعقوبية . وتفصيله في كتاب « المقاصد » . وتقدّم مفصّلاً عند تفسير قوله تعالى : { فآمِنوا بالله ورسُله ولا تقولوا ثلاثة } في سورة [ النّساء : 171 ] . وهذا قول اليعاقبة من النصارى ، وهم أتباع يعقوب البرذعاني ، وكان راهباً بالقسطنطينية ، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة المَلْكَانية ، ويقال لِليعاقبة : أصحاب الطبيعة الواحدة ، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم . ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة .
ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة . وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } في سورة [ النساء : 171 ] .
وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله : { قل فمن يملك من الله شيئاً } الآية ، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم : إنّ الله هو المسيح ، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع ، فهي للتعقيب الذِكري ، وهذا استعمال كثير في كلامهم ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق ، أي ليس الأمر كما زعمتم ، ولاَ أنّها جواب شرط مقدّر ، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئاً ، إلخ .
ومعنى يملك شيئاً هنا يَقْدِر على شيء ، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية ، وهذا اللازم متعدّد وهو المِلْك ، فاستطاعةُ التحويل ، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى : { قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرادَ بكم ضَرّا } الآية في سورة [ الفتح : 11 ] . وفي الحديث قال رسول الله لعُيينة بن حِصْن أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء .
فالتنكير في قوله { شيئاً } للتقليل والتحقير . ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضياً نفي الكثير بطريق الأولى ، فالمعنى : فمن يقدر على شيء من الله ، أي مِنْ فِعْله وتصرفِّه أنْ يحوّله عنه ، ونظيره
{ وما أغني عنكم من الله من شيء } [ يوسف : 67 ] . وسيأتي لمعنى « يملك » استعمال آخر عند قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يَملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } [ المائدة : 76 ] في هذه السورة ، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً في هذه السورة } [ المائدة : 41 ] .
وحرف الشرْط من قوله : { إن أراد } مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال ، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف ، ولأنّ إهلاك المسيح ، أي موته واقع عند المجادَلين بهذا الكلام ، فينبغي إرخاءُ العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة ، وهو أيضاً واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا : إنّ الله أماته ورفعه دون أن يُمكَّن اليهودُ منه ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه } [ النساء : 157 ] ، وقوله : { إنّي متوفّيك ورافعك إليّ } [ آل عمران : 55 ] . وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال . والمضارع المقترن بأن وهو { أن يهلك } مستعمل في مجرّد المصدرية . والمرادُ ب { مَن في الأرض } حينئذٍ من كان في زمن المسيح وأمِّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة . والتّقدير : مَن يملَك أن يصدّ الله إذْ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذٍ .
ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جَعْل { من في الأرض جميعاً } بمعنى نوع الإنسان ، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل { يُهلك } على طريقة التغليب ؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح ، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعاً ، أي إهلاك جميع النّوع ، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه مُمكن الوقوع .
والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية ، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليباً للمعنى الحقيقي ، لأنّ { مَنْ في الأرض } يعمّ الجميع وهو الأكثر . ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان . وقد هلكت مريم أمّ المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح .
والتذييل بقوله : { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء } فيه تعظيم شأن الله تعالى . وردّ آخر عليهم بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يَظهر المسيح ، فالله هو الإله حقّاً ، وأنّه يخلق ما يشاء ، فهو الّذي خلق المسيح خلقاً غير معتاد ، فكان موجِب ضلال من نسب له الألوهية . وكذلك قوله : { والله على كلّ شيء قدير } .