التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالٗا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ} (167)

وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } حكمة ثانية لما حدث فى غزوة أحد ليعلم - سبحانه - المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية وظهور يتميز معه عند الناس كل فريق عن الآخر تميزا ظاهرا .

إذ أن نصر المسملين فى بدر فتح الطريق أمام المنافقين للتظاهر باعتناق الإسلام . وعدم انتصارهم فى أحد ، كشف عن هؤلاء المنافقين وأظهرهم على حقيقتهم ، فإن من شأن الشدائد أنها تكشف عن معادن النفوس ، وحنايا القلوب .

ثم بين - سبحانه - بعض النصائح التى قيلت لهؤلاء المنافقين حتى يقلعوا عن نفاقهم ، وحكى مارد به المنافقون على الناصحين فقال : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } .

أى فعل - سبحانه - ما فعل فى أحد ليميز المؤمنين من المنافقين الذين قيل لهم من النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه : تعالوا معنا لتقاتلوا فى سبيل الله ، فإن لم تقاتلوا فادفعوا أى فانضموا إلى صفوف المقاتلين ، فيكثر عددهم بكم فإن كثرة العدد تزيد من خوف الأعداء .

أو المعنى : تعالوا معنا لتقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله ، فإن لم تفعلوا ذلك لضعف إيمانكم ، واستيلاء الشهوات والأهواء على نفوسكم ، فلا أقل من أن تقاتلوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن مدينتكم عار الهزيمة .

أى إن لم تقاتلوا طلبا لمرضاة الله ، فقالتوا دفاعا عن أوطانكم وعزتكم .

قال الجمل : وهذه الجملة وعى قوله - تعالى - { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ } تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع أى تكثير سواد المسلمين - أى عددهم .

والثانى : أن تكون معطوفة على { نَافَقُواْ } فتكون داخلة فى خبر الموصول . أى وليعلم الذين حصل منهم النافق والقول المذكور وإنما لم يأت بحرف العطف بين تعالوا وقاتلوا ، لأن المقصود أن تكون كل من الجملتين مقصودة بذاتها .

وقوله { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } حكاية لردهم القبيح على من نصحهم بالبقاء مع المجاهدين .

أى قال المنافقون - وعم عبد الله بن أبى وأتباعه - لو نعلم أنكم تقاتلون حقا لسرنا معكم ، ولكن الذى نعلمه هو أنكم ستذهبون إلى أحد ثم تعودون بدون قتال لأى سبب من الأسباب .

أو المعنى - كما يقول الزمخشرى - " لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا { لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشىء ، ولا يقال لمثله قتال ، إنما هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، لأن رأى عبد الله بن أبى كان فى الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج " .

وقال ابن جرير : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فى ألف رجل من أصحابه وحتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة ، انخذل عنهم عبد الله بن أبى ابن سلول بثلث الناس وقال . أطاعهم ، أى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعصانى . والله ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق والريب ، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أخو بنى سلمة - يقول لهم . يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم - وقاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا - فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكننا لا نرى أن يكون قتال .

فلما استعصوا عليه ، وأبوا إلا الانصراف عن المؤمنين قال لهم . أبعدكم الله يا أعداء الله فسيغنى الله رسوله عنكم ، ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هذا هو موقف المنافقين فى غزوة أحد ، وهو موقف يدل على فساد قلوبهم ، وخبث نفوسهم ، وجبنهم عن لقاء الأعداء .

ولقد كان المؤمنون الصادقون على نقيض ذلك ، فلقد خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه فكانوا ممن قال الله فيهم : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } ولقد حكى لنا التاريخ أن بعض المؤمنين الذين كانت لهم أعذارهم التى تسقط عنهم الخروج للجهاد ، كانوا يخرجون مع المجاهدين لتكثير عددهم .

فعن أنس بن مالك قال : " رأيت يوم القادسية - عبد الله بن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك ؟ فقال : بلى ولكنى أحب أن أكثر المسلمين بنفسى .

هذا ، وقد أصدر - سبحانه - حكمه العادل على أولئك المنافقين فقال : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .

أى هم يوم أن قالوا هذا القول الباطل قد بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مؤمنون ، لأنهم قبل أن يقولوا : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " كانوا يتظاهرون بالإيمان ، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر .

أو المعنى : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال فيه تقوية للمشركين .

قال الجمل : " وقوله { هُمْ } مبتدأ ، وقوله { أَقْرَبُ } خبره ، وقوله { لِلْكُفْرِ } وقوله { لِلإِيمَانِ } متعلقان بأقرب ، لأن أفعل التفضيل فى قوة عاملين . فكأنه قيل : قربوا من الكفر وقربوا من الإيمان ، وقربهم الكفر فى هذا اليوم أشد لوجود العلامة وهى خذلانهم للمؤمنين " .

وقوله { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا فى ذلك اليوم فحسب .

أى أن هؤلاء القوم من صفاتهم الذميمة أنهم يقولون بألسنتهم قولا يخالف ما انطوت عليه قلوبهم من كفر ، وما امتلأت به نفوسهم من بغضاء لكم - أيها المؤمنون - .

قال صاحب الكشاف : وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم وأن إيمانهم موجود فى أفواههم معدوم فى قلوبهم ، بخلاف صفة المؤمنين فى مواطأة قلوبهم لأفواههم " .

وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } تذييل قصد به زجرهم وتوعدهم بسوء المصير بسبب نفاقهم وخداعهم .

أى والله - تعالى - أعلم منكم - أيها المؤمنون - بما يضمره هؤلاء المنافقون من كفر ومن كراهية لدينكم ، لأنه - سبحانه - يعلم ما ظهر وما خفى من أمورهم ، وقد كشف الله لكم أحوالهم لكى تحذروهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم ، وسينزل بهم ما يستحقونه من عذاب مهين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالٗا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ} (167)

121

وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول ، وممن معه ، ويسميهم : " الذين نافقوا " . . وقد كشفهم الله في هذه الموقعة ، وميز الصف الإسلامي منهم . وقرر حقيقة موقفهم يومذاك : ( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) . . وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين . فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر ، وإنما هم : ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) . . فقد كان في قلوبهم النفاق ، الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة ، وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها . فالذي كان برأس النفاق - عبد الله بن أبي - أن رسول الله [ ص ] لم يأخذ برأيه يوم أحد . والذي كان به قبل هذا أن قدومه [ ص ] إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم ، وجعل الرياسة لدين الله ، ولحامل هذا الدين ! . . فهذا الذي كان في قلوبهم ، والذي جعلهم يرجعون يوم أحد ، والمشركون على أبواب المدينة ، وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام ، وهو يقول لهم : ( تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ) محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا ! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية :

( والله أعلم بما يكتمون ) . .

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالٗا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ} (167)

{ وليعلم الذين نافقوا } وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء . { وقيل لهم } عطف على نافقوا داخل في الصلة أو كلام مبتدأ . { تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } تقسيم للأمر عليهم وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال . وقيل معناه قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيرهم سواد المجاهدين ، فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه . { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة ، أو لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه ، وإنما قالوه دغلا واستهزاء . { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } لانخذالهم وكلامهم هذا فإنهما أول أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم . وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين . { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } يظهرون خلاف ما يضمرون ، لا توطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان . وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير . { والله أعلم بما يكتمون } من النفاق . وما يخلوا به بعضهم إلى بعض فإنه يعلمه مفصلا بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات .