التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (168)

ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التى قصدوا من ورائها الإساءة إلى المؤمنين ، والتشكيك فى صدق تعاليم الإسلام فقال - تعالى - : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .

أى أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها ، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم فى المشرب والاتجاه ، : قالوا لهم وقد وقعوا عن القتال : لو أن هؤلاء الذين استشهدوا فى أحد أطاعونا وقعدوا معنا فى المدينة لما أصابهم القتل ، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل .

ويجوز أن تكون اللام فى قوله " لإخوانهم " للتعليل فيكون المعنى : أنهم قالوا من أجل إخوانهم الذين استشهدوا فى غزوة أحد ، لو أن هؤلاء الذين قتلوا أطاعونا ولم يخرجوا لبقوا معنا على قيد الحياة ، كما هو حالنا الآن ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصحنا وخرجوا للقتال فقتلوا .

وعلى كلا التفسيرين فقولهم هذا يدل على خبث نفوسهم ، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته ، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أحد .

ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويدحض قولهم ، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال - تعالى - { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة : إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم فى بيوتكم ، وامتناعكم عن الخروج للقتال ، إذا كنتم تظنون ذلك { فَادْرَءُوا } أى ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم ، والذى سيدرككم ولو كنتم فى بروج مشيدة .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة الرد عليهم بما يبطل أقوالهم عن طريق الحس والمشاهدة ، وذلك ببيان أن القعود عن الجهاد لا يطيل الحياة ، كما أن الخروج إلى ساحات القتال لا ينقص شيئا من الآجال ، فكم من مجاهد عاد من جهاده سالما ، وكم من قاعد أتاه الموت وهو فى عقر داره .

فزعم هؤلاء المنافقين بأن أولئك الذين استشهدوا فى أحد لو أطاعوهم ولم يخرجوا للقتال لما أصابهم القتل زعم باطل ، وإلا فإن كانوا صادقين فى هذا الزعم فليدفعوا عن أنفسهم الموت الذى سينزل بهم حتما فى الوقت الذى يشاؤه الله ، ولا شك أنهم لن يستطيعوا دفعه فثبت كذبهم وافتراؤهم .

وقوله تعالى { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } فى محل نصب بدل من قوله { الذين نَافَقُواْ } .

أو فى محل رفع بدل من الضمير فى قوله { يَكْتُمُونَ } فكأنه قيل : والله أعلم بما يكتم هؤلاء الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . . .

وقوله { وَقَعَدُواْ } حال من الضمير فى { قَالُواْ } بتقدير حرف قد أى قالوا ما قالوا والحال أنهم قد قعدوا عن القتال .

وجواب الشرط فى قوله { الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو قوله { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } .

والتقدير : إن كنتم صادقين فى زعمكم أن الذين قتلوا فى أحد لو أطاعوكم وقعدوا كما قعدتم لما أصابهم القتل ، إن كنتم صادقين فى هذا الزعم فادرأوا عن أنفسكم الموت عند حلوله .

قال الآلوسى : والمراد أن ما ادعيتموه سببا للنجاة ليس بمستقيم ، ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول : فلأن أسباب النجاة كثيرة . غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية .

وأما الثانى : فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذى القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه ، فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم ، وأمرها أهم لديكم " .

وقال ابن القيم : وكان من الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد ، أن تكلم المنافقون بما فى نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مراد النفاق ، وما يؤول إليه ، كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة .

فالله الله كم من حكمة فى ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (168)

121

ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس :

( الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا ) . .

فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس ، وبخاصة أن عبد الله بن أبي ، كان ما يزال سيدا في قومه ، ولم يكشف لهم نفاقه بعد ، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم . بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة ، وهم يقولون :

( لو أطاعونا ما قتلوا ) . .

فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ، ويجعلون من طاعة الرسول [ ص ] واتباعه مغرما ومضرة . وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ، ولحتمية الأجل ، ولحقيقة الموت والحياة ، وتعلقهما بقدر الله وحده . . ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع ، الذي يرد كيدهم من ناحية ، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية :

( قل : فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) . .

فالموت يصيب المجاهد والقاعد ، والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر . ولا يؤجله جبن ولا قعود . . والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء . . وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم ، فيرد كيدهم اللئيم ، ويقر الحق في نصابه ، ويثبت قلوب المسلمين . ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين . .

ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة ، تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها . . تأخيره إلى هذا الموضع من السياق . .

وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية . . فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها ؛ وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها ؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها . . ثم يشير هذه الإشارة إلى " الذين نافقوا " . وفعلتهم وتصرفهم بعدها ، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح ، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح . . وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة ، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ، ووزن الأعمال والأشخاص ، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح ، بذلك الحس الإيماني الصحيح . .

ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد . فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي [ ص ] لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم ، وبلبلة في الأفكار ، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر . . فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله ؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها ؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق . مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح : " الذين نافقوا " والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة : ( ألم تر إلى الذين نافقوا ؟ ) ، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ، ليبقى نكره في : " الذين نافقوا " كما يستحق من يفعل فعلته ، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان . . ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق . .

/خ179

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (168)

{ الذين قالوا } رفع بدلا من واو { يكتمون } ، أو نصب على الذم أو الوصف للذين نافقوا ، أو جر بدلا من الضمير في { بأفواههم } أو { قلوبهم } كقوله :

على حالة لو أن في القوم حاتما *** على جوده لضن بالماء حاتم

{ لإخوانهم } أي لأجلهم ، يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم أو من جنسهم . { وقعدوا } حال مقدرة بقد أي قالوا قاعدين عن القتال . { لو أطاعونا } في القعود بالمدينة . { ما قتلوا } كما لم نقتل . وقرأ هشام { ما قتلوا } بتشديد التاء . { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه ، فإنه أحرى بكم ، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت ، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سببا للهلاك والقعود سببا للنجاة قد يكون الأمر بالعكس .