ثم أخبر - سبحانه - عما رد به عليهم أبوهم فقال : { قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } .
والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب .
والخوف : فزع النفس من مكروه يتوقع حصوله .
والذئب : حيوان معروف بعدوانه على الضعاف من الإِنسان ومن الحيوان ، وال فيه للجنس ، والمراد به أى فرد من أفراد الذئاب .
أى : قال يعقوب لأبنائه ردا على إلحاحهم في طلب يوسف للذهاب معهم يا أبنائى إننى ليحزننى حزناً شديداً فراق يوسف لى ، وفضلا عن ذلك فإننى أخشى إذا أخذتموه معكم في رحلتكم أن يأكله الذئب ، وأنتم عنه غافلون ، بسبب اشتغالكم بشئون أنفسكم ، وقلة اهتمامكم برعايته وحفظه .
قالوا : وخص الذائب بالذكر من بين سائر الحيوانات ، ليشعرهم بأن خوفه عليه مما هو أعظم من الذئب توحشا وافتراسا أشد وأولى .
أو خصه بالذكر لأن الأرض التي عرفوا بالنزول فيها كانت كثيرة الذئاب .
وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي - بطريق غير مباشر - أنه لا يأمنهم عليه ، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب :
( قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ) . .
( إني ليحزنني أن تذهبوا به ) .
إنني لا أطيق فراقه . . ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها . أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم ، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة .
( وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ) . .
ولا بد أنهم وجدوا فيها عذرا كانوا يبحثون عنه ، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة ، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب !
يقول تعالى مخبرا عن نبيه{[15073]} يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء : { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ } أي : يشق علي مفارقتُهُ مدة ذهابكم به إلى أن يرجع ، وذلك لفَرْط محبته له ، لما يتوسم فيه من الخير العظيم ، وشمائل النبوة والكمال في الخُلُق والخلق ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورَعْيتكم{[15074]} فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون ، فأخذوا من فمه هذه الكلمة ، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه ، وقالوا مجيبين عنها في الساعة الراهنة : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ } يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ، ونحن جماعة ، إنا إذًا لهالكون عاجزون .
فصل جملة { قال } جار على طريقة المحاورة .
أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف عليه السّلام معهم إلى الرّيف بأنّه يحزنه لبعده عنه أيّاماً ، وبأنّه يخشى عليه الذئاب ، إذ كان يوسف عليه السّلام حينئذٍ غلاماً ، وكان قد رُبّيَ في دَعَة فلم يكن مَرناً بمقاومة الوحوش ، والذئابُ تَجْتَرىءُ على الذي تحسّ منه ضعفاً في دفاعها . قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة :
والذّئب أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا
فقلت له لمّا تكشّر ضاحكاً *** وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني *** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فذئاب بادية الشّام كانت أشدّ خبثاً من بقية الذئاب ، ولعلّها كانت كذئاب بلاد الرُّوس . والعرب يقولون : إنّ الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتّى عضّ الإنسان وأسال دمه أنّه يضرى حين يرى الدمّ فيستأسد على الإنسان ، قال :
فكنت كذئب السّوء حين رأى دماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم
وقد يتجمّع سرب من الذئاب فتكون أشدّ خطراً على الواحد من الناس والصغير .
والتعريف في { الذئب } تعريف الحقيقة والطبيعة ، ويسمّى تعريف الجنس . وهو هنا مراد به غير معيّن من نوع الذئب أو جماعة منه ، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذّوات لا من أحوال الجنس ، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون تعيين . ونظيره قوله تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [ سورة الجمعة : 5 ] أي فرد من الحمير غير معيّن ، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأنّ الجنس لا يحمل . ومنه قولهم : ( ادخل السوق ) إذا أردت فرداً من الأسواق غير معين ، وقولك : ادخل ، قرينة على ما ذكر . وهذا التّعريف شبيه بالنّكرة في المعنى إلاّ أنّه مراد به فرد من الجنس . وقريب من هذا التّعريف باللاّم التعريف بعلم الجنس ، والفرق بين هذه اللام وبين المنكّر كالفرق بين علم الجنس والنكرة .
فالمعنى : أخاف أن يأكله الذّئب ، أي يَقتله فيأكل منه فإنّكم تبعدون عنه ، لمَا يعلم من إمعانهم في اللّعب والشّغل باللهو والمسابقة ، فتجتري الذئاب على يوسف عليه السّلام .
والذئب : حيوان من الفصيلة الكلبيّة ، وهو كلب بَرّي وحشيّ . من خلقه الاحتيال والنفورُ . وهو يفترس الغنم . وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربّما مزّقه .
وإنّما ذكر يعقوب عليه السّلام أنّ ذهابهم به غَدا يحدث به حزناً مستقبلاً ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأنّ شأن الابن البار أن يتّقي ما يحزن أباه .
وتأكيد الجملة بحرف التّأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أنّ حزنه لفراقه ثابت ، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك ، إذْ رأى إلحاحهم . ويسري التّأكيد إلى جملة { وأخاف أن يأكله الذئب } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.