التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا} (11)

ثم حكى - سبحانه - ما قالوه فى وصف حالهم وواقعهم فقال : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون . . . } أى : منا الموصوفون بالصلاح والتقوى . . وهم الذين آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ولم يشركوا معه فى العبادة أحدا . .

{ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أى : ومنا قوم دون ذلك فى الصلاح والتقوى . . وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم ، ولم يستقيموا على صراطه ودينه .

وقوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } تشبيه بليغ . والطرائق : جمع طريقة ، وهى الحالة والمذهب .

وقددا : جمع قِدَّة ، وهى الفرقة والجماعة من الناس ، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم .

والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها .

أى : وأنا من واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار . . ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل . . فنحن فى حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة فى حسنها وقبحها ، وكالطرق المتعددة فى استقامتها واعوجاجها . . أما الآن فقد وفقنا الله - تعالى - إلى الإِيمان به ، وإلى إخلاص العبادة له . .

ومن وجوه البلاغة فى الآية الكريمة ، أنهم قالوا : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال فى الصلاح ، ومن هم قد انحدروا فى الشرور والآثام إلى درجة كبيرة ، وهم الأشرار .

والمقصود به الآية الكريمة ، مدح الصالحين ، وذم الصالحين ، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإِيمان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا} (11)

بعد ذلك أخذ الجن يصفون حالهم وموقفهم من هدى الله ؛ بما نفهم منه أن لهم طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال . ويحدثنا هذا النفر عن عقيدتهم في ربهم وقد آمنوا به . وعن ظنهم بعاقبة من يهتدي ومن يضل :

( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ، كنا طرائق قددا . وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا . وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون : فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) . .

وهذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين وغير صالحين ، مسلمين وقاسطين ، يفيد ازدواج طبيعة الجن ، واستعدادهم للخير والشر كالإنسان - إلا من تمحض للشر منهم وهو إبليس وقبيله - وهو تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق . فأغلبنا حتى الدارسين الفاقهين - على اعتقاد أن الجن يمثلون الشر ، وقد خلصت طبيعتهم له . وأن الإنسان وحده بين الخلائق هو ذو الطبيعة المزدوجة . وهذا ناشئ عن مقررات سابقة في تصوراتنا عن حقائق هذا الوجود كما أسلفنا . وقد آن أن نراجعها على مقررات القرآن الصحيحة !

وهذا النفر من الجن يقول : ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ) . . ويصف حالهم بصفة عامة : ( كنا طرائق قددا ) . . أي لكل منا طريقته المنفصلة المقدودة المنقطعه عن طريقة الفريق الآخر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا} (11)

يقول مخبرا عن الجن : أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي : غير ذلك ، { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي : طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة .

قال ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد : { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي : منا المؤمن ومنا الكافر .

وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه ، حدثنا أسلم بن سهل بحشل ، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان - هو أبو الشعثاء الحضرمي ، شيخ مسلم - حدثنا أبو معاوية{[29374]} قال : سمعتُ الأعمش يقول : تروح إلينا جني ، فقلت له : ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال : الأرز . قال : فأتيناهم به ، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا . فقلت : فيكم من هذه الأهواء التي فينا ؟ قال : نعم . قلت : فما الرافضة فيكم{[29375]} ؟ قال {[29376]} شرنا . عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المِزِّي فقال : هذا إسناد صحيح إلى الأعمش .

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال{[29377]} سمعتُ بعض الجَنّ وأنا في منزل لي بالليل ينشد :

قُلوبٌ بَرَاها الحبّ حَتى تعلَّقت *** مَذَاهبُها في كُلّ غَرب وشَارقِ

تَهيم بحب الله ، واللهُ رَبُّها *** مُعَلَّقةٌ بالله دُونَ الخَلائقِ{[29378]}


[29374]:- (1) في أ : "أبو عوانة".
[29375]:- (2) في أ : "منكم".
[29376]:- (3) في م : "قالوا".
[29377]:- (4) في م : "أنه قال".
[29378]:- (5) تاريخ دمشق (8/887 "المخطوط" ).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا} (11)

قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن .

وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء ، أي آمنا بأنا منّا الصالحون ، أي أيقنَّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك .

ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين ، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم ، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإِفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون ، ثم تلطفوا فقالوا : ومنا دون ذلك ، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين ، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يُعنَى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح ، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإِرشاد إلى الخير .

و { دونَ } : اسم بمعنى ( تحت ) ، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية المكانية ، أي في مكان منحط عن الصالحين .

والتقدير : ومنا فريق في مرتبة دونهم .

وظرفية { دون } مجازية . ووقع الظرف هنا ظرفاً مستقراً في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره : فريق ، كقوله تعالى : { وما منا إلاّ له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] ويطَّرد حذف الموصوف إذا كان بعضَ اسم مجرور بحرف ( مِن ) مقدممٍ عليه وكانت الصفة ظرفاً كما هنا ، أو جملة كقول العرب : مِنَّا ظَعَن ومِنَّا أقام .

وقوله : { كنا طرائق قِدَداً } تشبيه بليغ ، شبه تخالف الأحوال والعقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى .

و { طرائق } : جمع طريقة ، والطريقة هي الطريق ، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأنّ التاء للتأكيد مثل دار ودَارة ، ومثل مَقام ومقَامة ، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } [ المؤمنون : 17 ] ووصفت بالمثلى في قوله : { ويَذْهبَا بطريقتكم المُثلى } [ طه : 63 ] .

ووصف { طرائق } ب { قِدداً ، } وهو اسم جمع قِدَّة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة : القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولاً كالسير ، شبهت الطرائق في كثرتها بالقِدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القِدّ كانوا يقيدون بها الأسرى .

والمعنى : أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإِسلام ، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق .

وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك ، والتوكيد ب ( إنّ ) متوجه إلى المعنى التعريضي .