اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدٗا} (11)

قوله : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } .

هذا من قول الجنِّ ، أي : قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم : وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون .

قوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ، يحتمل وجهين :

أحدهما : يحتمل أن «دُونَ » بمعنى «غير » ، أي : ومنا غير الصالحين ، أي : كافرون ، وهو مبتدأ ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }[ الأنعام : 94 ] فيمن نصب على أحد الأقوال ، وإلى هذا نحا الأخفش .

والثاني : أن «دُونَ » على بابها من الظرف ، وأنها صفة لمحذوف ، تقديره : ومنا فريق أو فوج دون ذلك ، وحذف الموصوف مع «مِنْ » التبعيضية يكثر ، كقولهم : منَّا ظعنَ ومنَّا أقام ، أي : منا فريقٌ ظعن ، ومنا فريق أقام .

ومعنى الآية : ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح .

قوله : { كُنَّا طَرَائِقَ } ، فيه أوجه :

أحدها : أن التقدير : كنا ذوي طرائق ، أي : ذوي مذاهب مختلفة .

الثاني : أن التقدير : كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ .

الثالث : أن التقدير : كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ ؛ كقوله : [ الكامل ]

4903 - . . . *** كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ{[58141]}

الرابع : أن التقدير : كانت طريقتنا طرائق قدداً ، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشريُّ .

فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً .

وقال : إنَّه قدر في الأول : «ذَوِي » .

وفي الثاني : مثل .

وفي الثالث : طرائق .

ورد عليه أبو حيَّان{[58142]} قوله : { كُنَّا طَرَائِقَ } ؛ كقوله : [ الكامل ]

4904 - . . . *** كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ{[58143]}

بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور ، فلا يخرج القرآنُ عليه ، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص .

والقددُ : جمع قددة ، والمراد بها الطريقةُ ، وأصلها السيرة ، يقال : قِدَّة فلان حسنة ، أي : سيرته ، وهو من قدَّ السير ، أي : قطعه على استواء ، فاستعير للسيرة المعتدلة .

قال الشاعر : [ البسيط ]

4905 - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه***في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ{[58144]}

وقال آخر : [ البسيط ]

4906 - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة***إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ{[58145]}

وقال لبيد في أخيه : [ المنسرح ]

4907 - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا***لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ{[58146]}

والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ ، ويقال : ما له قد ولا قحف ، فالقد : إناء من جلد ، والقحف : إناء من خشب .

فصل في معنى الآية

قال سعيد بن المسيِّب : معنى الآية «كنا مسلمين ، ويهود ونصارى ومجوساً »{[58147]} .

وقال السدي : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية{[58148]} .

وقال قوم : إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون ، ومنا الكافرون .

وقيل : أي : ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح .

قال القرطبيُّ{[58149]} رحمه الله : «والأول أحسن ، لأنه كان في الجن من آمن بموسى ، وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }[ الأحقاف : 30 ] ، وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة ، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان ، وأيضاً لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر ، والطرائق : جمع طريقة ، وهي مذهب الرجل ، أي : كنا فرقاً ، ويقال : القوم طرائق أي : على مذاهب شتَّى ، والقددُ : نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده : قدَّة ، يقال : لكل طريقةٍ قِدَّةٌ » .


[58141]:ينظر الكشاف 6/627، والبحر 8/343، والدر المصون 6/393.
[58142]:ينظر: البحر المحيط 8/350.
[58143]:تقدم.
[58144]:ينظر القرطبي 19/11، والبحر 8/339، والدر المصون 6/394 وروح المعاني 29/110.
[58145]:ينظر البحر 8/339، والدر المصون 6/394.
[58146]:ينظر: ديوانه (159)، والقرطبي 9/11.
[58147]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/11).
[58148]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/435) وعزاه إلى أبي الشيخ. وذكره القرطبي في "تفسيره" (19/11).
[58149]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/11.