و { إِن } هنا نافية بمعنى ما النافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه .
أى : وما أحد من أهل الكتاب . وحذف أحد لأنه ملحوظ فى كل نفى يدخله الاستثناء . نحو : ما قام إلا زيد . أى ما قام أحد إلا زيد .
وللمفسرين فى تفسير هذه الآية اتجاهان :
الأول : أن الضمير فى قوله { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى عيسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى : وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن بعيسى - عند نزوله فى آخر الزمان - حق الإِيمان ، { قَبْلَ مَوْتِهِ } أى : قيل موت عيسى ، { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ } عيسى - عليه السلام - { عَلَيْهِمْ } أى : على أهل الكتاب { شَهِيداً } فيشهد عليهم بأنه قد أمرهم بعباده الله وحده ، وأنه قد نهاهم عن الإِشراك معه آلهة أخرى .
وقد انتصر لهذا الاتجاه كثير من المفسرين وعلى رأسهم شيخهم ابن جرير . فقد قال - بعد سرد الأقوال فى الآية - : وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال . تأويل ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى .
وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير بقوله : ولا شك أن الذى قاله ابن جرير هو الصحيح . لأن المقصود من سياق الآيات ، بطلان ما زعمته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وبطلان تسليم من سلم لهم من النصارى الجهالة ذلك . فقد أخبر الله - تعالى أن الأمر لم يكن كذلك ، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك . ثم إن الله - تعالى - رفع إليه عيسى ، وإنه باق حى ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة .
ثم عقد ابن كثير فصلا عنونه بقوله : ذكر الأحاديث الواردة فى نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء فى آخر الزمان قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك به .
ثم ساق ابن كثير جملة من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها " .
ثم يقول أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } .
أما الاتجاه الثانى : فيرى أصحابه أن الضمير فى قوله { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى الكتابى المدلول عليه بقوله : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب } وعليه يكون المعنى :
وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته أى قبل موت هذا الكتابى ، لأنه عند ساعة الاحتضار يتجلى له الحق ، ويتبين له صحة ما كان ينكره ويجحده فيؤمن بعيسى - عليه السلام - ويشهد بأنه عبد الله ورسوله ، وأن الله واحد لا شريك له ، ولكن هذا الإِيمان لا ينفعه ، لأنه جاء فى وقت الغرغرة ، وهو وقت لا ينفع فيه الإِيمان ، لانقطاع التكلي فيه .
قالوا : ويؤيد هذا التأويل قراءة أبى : { إلا ليؤمنن به قبل موتهم } - بضم النون وبميم الجمع - .
وقد صدر صاحب الكشاف كلامه بذكر هذا التأويل فقال ما ملخصه : والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى . وبأنه عبد الله ورسوله . يعنى : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه .
فإن قلت : ما فائدة الإِخبار بعيسى قبل موتهم ؟ قلت فائدته الوعدي ، وليكون عملهم بأنهم لا بد لهم من الإِيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم ، بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإِيمان به فى وقت الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم .
وقيل : الضميران لعيسى بمعنى : وإن منهم أحد إلا ليؤمننن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون فى زمان نزوله .
والذى نراه أولى أنه لا تعارض بين التأويلين . فإن كلا منهما حق فى ذاته .
فكل كتابى عندما تحضره الوفاة يعلم أن عيسى كان صادقا فى نبوته ، وأنه عبد الله ، وأنه قد دعا الناس إلى عبادة الله وحده . وكذلك كل كتابى يشهد نزول عيسى فى آخر الزمان سيؤمن به ويتبعه ويشهد بأنه صادق فيما بلغه عن ربه .
ونعود من هذا الاستطراد ، مع عودة السياق القرآني إلى بقية هذا الاستدراك :
( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ؛ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا ) .
وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية ، باختلافهم في عائد الضمير في " موته " فقال جماعة : وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى - عليه السلام - قبل موته - أي عيسى - وذلك على القول بنزوله قبيل الساعة . . وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى قبل موته . . أي موت الكتابي - وذلك على القول بأن الميت - وهو في سكرات الموت - يتبين له الحق ، حيث لا ينفعه أن يعلم !
ونحن أميل إلى هذا القول الثاني ؛ الذي ترشح له قراءة أبى : " إلا ليؤمنن به قبل موتهم " . . فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير ؛ وأنه أهل الكتاب . . وعلى هذا الوجه يكون المعنى : أن اليهود الذين كفروا بعيسى - عليه السلام - وما زالوا على كفرهم به ، وقالوا : إنهم قتلوه وصلبوه ، ما من أحد منهم يدركه الموت ، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح ، فيرى أن عيسى حق ، ورسالته حق ، فيؤمن به ، ولكن حين لا ينفعه إيمان . . ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا .
وقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا }
قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } يعني بعيسى { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعنى : قبل موت عيسى - يُوَجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية ، دين إبراهيم ، عليه السلام .
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي حُصَين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : قبل موت عيسى ابن مريم . وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك{[8582]} .
وقال أبو مالك في قوله : { إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يعني : اليهود خاصة . وقال الحسن البصري : يعني النجاشي وأصحابه . ورواهما ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : قبل موت عيسى . والله إنه الآن حي عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن عثمان اللاحقي ، حدثنا جويرية بن بشر قال : سمعت رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله ، [ عز وجل ]{[8583]} { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : " قبل موت عيسى . إن الله رفع إليه عيسى [ إليه ]{[8584]} وهو باعثه قبل يوم القيامة مقامًا يؤمن به البر والفاجر " .
وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد . وهذا القول هو الحق ، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع ، إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } قبل موت الكتابي . ذكرَ من كان يُوَجه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل ؛ لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين{[8585]} له الحق من الباطل في دينه .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى .
حدثني المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته - قبل موت صاحب الكتاب - وقال ابن عباس : لو ضربت عنقه لم تخرج نَفْسُه حتى يؤمن بعيسى .
حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا أبو نُمَيْلة يحيى بن واضح ، حدثنا حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل عليه بالسلاح .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثنا عتَّاب بن بَشِير{[8586]} عن خُصَيْف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : هي في قراءة أبي : { قَبْلَ مَوْتِهِمْ } ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى . قيل لابن عباس : أرأيت إن خَرّ من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهُوِيّ . فقيل : أرأيت إن ضربت عنق أحد منهم ؟ قال : يُلَجْلج بها لسانه .
وكذا رَوَى سفيان الثوري عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ، عليه السلام ، وإن ضرب بالسيف تكلم به ، قال : وإن هَوَى تكلم [ به ]{[8587]} وهو يَهْوي .
وكذا روى أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي هارون الغَنَوي{[8588]} عن عكرمة ، عن ابن عباس . فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس ، وكذا صَحّ عن مجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين . وبه يقول الضحاك وجُوَيْبر ، والسدي ، وحكاه عن ابن عباس ، ونَقل قراءة أبيّ بن كعب : " قبل موتهم " .
وقال عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن فرات القزاز ، عن الحسن في قوله : { إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت .
وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه ، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء{[8589]}
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي .
حدثني ابن المثنى ، حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن حميد قال : قال عكرمة : لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }
ثم قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القولُ الأولُ ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى ، عليه السلام ، إلا آمن به قبل موته ، أي قبل موت عيسى ، عليه السلام ، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه [ الله ]{[8590]} هو الصحيح ؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه ، وإنه باق حي ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة - التي سنوردها إن شاء الله قريبا - فيقتل مسيح{[8591]} الضلالة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية - يعني : لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف - فأخبرت هذه الآية الكريمة أن{[8592]} يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : قبل موت عيسى ، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } أي : بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض . فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد ، عليهما [ الصلاة و ]{[8593]} والسلام{[8594]} فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يَتَجَلي له ما كان جاهلا به ، فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له ، إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى في [ أول ]{[8595]} هذه السورة : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ] } الآية [ النساء : 18 ] وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأَْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بَاللهِ وَحْدَهُ[ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ]{[8596]} } الآيتين{[8597]} [ غافر : 84 ، 85 ] وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد{[8598]} هذا القول ، حيث قال : ولو كان المراد بهذه الآية هذا ، لكان كل من آمن بمحمد أو بالمسيح ، ممن كفر بهما - يكون على دينهما ، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه ؛ لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته . فهذا ليس بجيد ؛ إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلمًا ، ألا ترى إلى قول ابن عباس : ولو تردى من شاهق أو ضُرب بسيف أو افترسه سَبُع ، فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى " فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافع ، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه ، والله أعلم .
ومن تأهل هذا جيدًا وأمعن النظر ، اتضح له أن هذا ، وإن كان هو الواقع ، لكن لا يلزم منه أن يكون المرادُ بهذه الآية هذا ، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى ، عليه السلام ، وبقاء حياته في السماء ، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ؛ ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادّت وتعاكست وتناقضت ، وخلت عن الحق ، ففرّط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى : تَنَقَّصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم ، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه ، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية ، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا ، وتنزه وتَقَدّس لا إله إلا هو .
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة ، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له :
قال البخاري ، رحمه الله ، في كتاب ذكر الأنبياء ، من صحيحه المتلقى بالقبول : ( نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام ) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا{[8599]} من الدنيا وما فيها " . ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا }
وكذا رواه مسلم عن الحسن{[8600]} الحُلْواني وعبد بن حميد كلاهما ، عن يعقوب ، به{[8601]} وأخرجه البخاري ومسلم ، أيضًا ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به{[8602]} وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به{[8603]} ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكون فيكم ابنُ مريم حكمًا عدلا يقتل الدجال ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين " . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ } موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات{[8604]} .
طريق أخرى عن أبي هريرة : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْحٌ ، حدثنا محمد بن أبي حَفْصَة ، عن الزُّهْري ، عن حنظلة{[8605]} بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَيُهِلَّن عيسى ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحَاء بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعًا " .
وكذا رواه مسلم منفردًا به من حديث سفيان بن عيينة ، والليث بن سعد ، ويونس بن يزيد ، ثلاثتهم عن الزهري به{[8606]} .
وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان - هو ابن حسين - عن الزهري ، عن حنظلة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ، ويمحو الصليب ، وتجمع له الصلاة ، ويعطي المال حتى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما " قال : وتلا أبو هريرة : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ] } فزعم حنظلة{[8607]} أن أبا هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى ، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي موسى محمد بن المثنى ، عن يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين عن الزهري ، به{[8608]} .
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا أبن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري ؛ أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنتم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم ، وإمامكم منكم ؟ " تابعه عقيل والأوزاعي .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، وعن عثمان بن عمر ، عن ابن أبي ذئب ، كلاهما عن الزهري ، به . وأخرجه مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب ، به{[8609]} .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همَّام ، أنبأنا قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الأنبياء إخوة لِعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان مُمَصّرَان ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلَل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح{[8610]} الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض ، حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنّمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم ، فيمكث أربعين سنة ، ثم يُتَوَفى ويصلي عليه المسلمون " .
وكذا رواه أبو داود ، عن هُدْبَة بن خالد ، عن همام بن يحيى . رواه ابن جرير - ولم يورد{[8611]} عند هذه الآية سواه - عن بِشْر{[8612]} بن معاذ ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عَروبة - كلاهما عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم - وهو مولى أمّ بُرْثُن - صاحب السقاية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، وقال : فيقاتل الناس على الإسلام{[8613]} .
وقد روى البخاري ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ، ليس بيني وبينه نبي " {[8614]} .
ثم روى عن محمد بن سِنَان : عن فُلَيْح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد " وقال إبراهيم بن طَهْمَان ، عن موسى بن عقبة ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . {[8615]} .
حديث آخر : قال مسلم في صحيحه : حدثني زُهَير بن حرب ، حدثنا مُعَلى بن منصور ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثنا سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو بدابق - فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافّوا قال الروم : خلوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نقاتلهم . فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا . فيقاتلونهم ، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا ، ويُقْتَلُ ثلثه أفضل الشهداء عند الله [ عز وجل ]{[8616]} ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية ، فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون ، إذْ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم . فيخرجون ، وذلك باطل . فإذا جاؤوا الشام خرج ، فبينما هم يُعدّون للقتال : يسوون الصفوف ، إذ أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى ابن مريم فأمَّهم{[8617]} فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده ، فيريهم دمه في حَرْبته " {[8618]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، عن العَوَّام بن حَوْشَب ، عن جَبَلة بن{[8619]} سُحَيْم ، عن مُؤثر بن عَفَازَة ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، عليه{[8620]} السلام ، فتذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن الدجال خارج قال : ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص{[8621]} قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافرًا فتعالَ فاقتله : قال : فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حَدَب ينسلون ، فيطؤون بلادهم ، فلا{[8622]} يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ، قال : ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم ، فأدعو الله عليهم ، فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجْوَى الأرضُ من نَتْن ريحهم ، وينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى نقذفهم في البحر ، ففيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتِمّ ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها{[8623]} ليلا أو نهارا .
رواه ابن ماجه ، عن محمد بن بشَّار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حَوْشَب ، به نحوه{[8624]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نَضرة قال : أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة ؛ لنعرض عليه مصحفًا لنا على مصحفه ، فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا ، ثم أتينا{[8625]} بطيب فتطيبنا ، ثم جئنا المسجد فجلسنا إلى رجل ، فحدثنا عن الدجال ، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه ، فجلسنا فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكون للمسلمين ثلاثة أمصار : مصر بملتقى البحرين ، ومصر بالحيرة ، ومصر بالشام . فيفزع{[8626]} الناس ثلاث فزعات ، فيخرج الدجال في أعراض الناس ، فيهزم من قبل المشرق ، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين ، فيصير أهلهم ثلاث فرق : فرقة تُقيم تقول : نُشَامه ننظر ما هو ؟ وفرقة تلحق بالأعراب ، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم . ومع الدجال سبعون ألفًا عليهم السيجان وأكثر من معه اليهود والنساء ، ثم يأتي المصر الذي يليه ، فيصير أهله ثلاث فرق : فرقة تقول : نشامه وننظر ما هو ؟ وفرقة تلحق بالأعراب ، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغرب الشام وينحاز المسلمون إلى عقبة أَفِيق فيبعثون سَرْحًا لهم ، فيصاب سَرْحهم ، فيشتد ذلك عليهم وتصيبهم{[8627]} مجاعة شديدة وجهد شديد ، حتى إن أحدهم ليحرقُ وتَرَ قَوْسه{[8628]} فيأكله ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السَّحَر : " يا أيها الناس ، أتاكم الغوث ثلاثا " فيقول بعضهم لبعض : إن هذا لَصَوْت{[8629]} رجل شبعان ، وينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، عند صلاة الفجر ، فيقول له أميرهم : رُوح الله ، تَقَدَّمْ صَلِّ . فيقول : هذه الأمة أمراء ، بعضهم على بعض . فيتقدم أميرهم فيصلي ، فإذا قضى صلاته أخذ عيسى حَرْبَته ، فيذهب نحو الدَّجال ، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص ، فيضع حَرْبته بين ثَنْدوَته{[8630]} فيقتله وينهزم{[8631]} أصحابه ، فليس يومئذ شيء يواري أحدًا ، حتى إن الشجرة لتقول : يا مؤمن ، هذا كافر . ويقول الحجر : يا مؤمن ، هذا كافر " . تفرد به أحمد من هذا الوجه{[8632]} .
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه المشهورة : حدثنا علي بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع أبي رافع ، عن أبي زُرْعَة الشيباني يحيى بن أبي عمرو ، عن أبي أُمَامة الباهلي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أكثرُ خطبته حديثًا حدثناه عن الدجال ، وحذرناه ، فكان من قوله أن قال :
" لم تكن فتنة في الأرض ، منذ ذرأ الله ذُرِّية آدم ، عليه السلام ، أعظم من فتنة الدجال ، وإن الله لم يبعث نبيًا إلا حَذَّر أُمَّته الدجال . وأنا آخر الأنبياء ، وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا بين ظَهْرَانيكم ، فأنا حجيج لكل مسلم ، وإن يَخْرُجُ من بعدي فكل [ امرئ ]{[8633]} حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من خَلّة بين الشام والعراق ، فيعيث يمينًا ويعيث شمالا " .
" [ ألا ]{[8634]} يا عباد الله ، أيها الناس ، فاثبتوا . وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي : إنه يبدأ فيقول{[8635]} أنا نبي " فلا نبي بعدي ، ثم يثني فيقول : " أنا ربكم " ، ولا ترون ربكم حتى تموتوا . وإنه أعور وإن ربكم ، عز وجل ، ليس بأعور ، وإنه مكتوب بين عينيه : كافر ، يقرؤه كلّ مؤمن ، كاتب وغير{[8636]} كاتب . وإن من فتنته أن معه جنة ونارا ، فناره جنة وجنته نار . فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف ، فتكون عليه بردًا وسلاما ، كما كانت النار{[8637]} على إبراهيم [ عليه السلام ]{[8638]} وإن من فتنته أن يقول لأعرابيّ : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك ؟ فيقول : نعم . فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه ، فيقولان : يا بني ، اتبعه ، فإنه ربك . وإن من فتنته أن يُسَلّط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار ، حتى يُلْقَى شقين ثم يقول : انظروا إلى عبدي هذا ، فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له ربًّا غيري . فيبعثه الله ، فيقول له الخبيث : من ربك ، فيقول : ربي الله . وأنت عدو الله ، الدجال ، والله ما كنتُ بعدُ أشدّ بصيرة بك مني اليوم " . قال أبو حسن الطَّنَافِسيّ : فحدثنا المحاربي ، حدثنا عبيد الله{[8639]} بن الوليد الوصّافي ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك الرجل{[8640]} أرفع أمتي درجة في الجنة " .
قال : قال أبو{[8641]} سعيد : والله ما كنا نُرَى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب ، حتى مضى لسبيله{[8642]} .
قال{[8643]} المحاربي : ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تُمْطر ، فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، فتنبت ، [ وإن من فتنته أن يَمُر بالحي فيكذبونه ، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ]{[8644]} وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه ، فيأمر السماء أن تمطر ، فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، فتنبت . حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه ، وأمَدّه خواصر ، وأدره ضُروعا ، وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه ، إلا مكة والمدينة ، فإنه لا يأتيهما من نَقْب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صَلتة ، حتى ينزل عند الظّرَيب{[8645]} الأحمر ، عند مُنْقَطع السَّبخَة ، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفات ، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، فَتَنْفى الخَبَثَ منها كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد ، ويُدعى ذلك اليوم يوم الخلاص .
فقالت أم شَرِيك بنت أبي العَكَر{[8646]} يا رسول الله ، فأين العرب يومئذ ؟ قال : " هم قليل ، وجلهم ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح ، فبينما إمامهم قد تقدم يُصلي بهم الصبح إذ نزل [ عليهم ]{[8647]} عيسى [ ابن مريم ]{[8648]} عليه السلام ، الصبح ، فرجع ذلك الإمام ينكص ، يمشي القهقرى ؛ ليقدم{[8649]} عيسى يصلي بالناس ، فيضع عيسى ، عليه السلام ، يده بين كتفيه ثم يقول : تقدم فصل ، فإنها لك أقيمت . فيصلي بهم إمامهم ، فإذا انصرف قال عيسى ، عليه السلام : افتحوا الباب . فيفتح ، ووراءه الدجال ، معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج ، فإذا نظر إليه{[8650]} الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء ، وينطلق هاربًا ، ويقول عيسى [ عليه السلام ]{[8651]} إن لي فيك ضَرْبَة لن تستبقني بها . فيدركه عند باب لُدّ الشرقي ، فيقتله ، ويهزم الله اليهود ، فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى{[8652]} يتوارى به اليهودي{[8653]} إلا أنطق الله ذلك الشيء ، لا حجر ، ولا شجر ، ولا حائط ، ولا دابة - إلا الغَرْقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال : يا عبد الله المسلم ، هذا يهودي ، فتعال{[8654]} اقتله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن أيامه أربعون سنة ، السنة كنصف السنة ، والسنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة ، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي " . فقيل له : يا نبي الله{[8655]} كيف نصلي ، في تلك الأيام القصار ؟ قال : " تقدرون فيها الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال . ثم صَلّوا " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مُقْسطا ، يَدُقُّ الصليب ، ويقتل{[8656]} الخنزير ، ويضع الجزية ، ويترك الصدقة ، فلا يُسْعَى على شاة ولا بعير ، وترتفع الشحناء والتباغض ، وتُنزع حُمَة كل ذات حمة ، حتى يدخل الوليد يده في{[8657]} الحية فلا تضره ، وتُفرُّ الوليدة الأسد فلا يضرها ، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها ، وتملأ الأرضُ من السّلم{[8658]} كما يُمْلأ الإناء من الماء ، وتكون الكلمة واحدة ، فلا يعبد إلا الله ، وتضع الحرب أوزارها ، وتسلب قريش ملكها ، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها كعهد آدم ، حتى يجتمع النفر على القِطْف من العنب فيشبعهم ، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ، ويكون الثور بكذا وكذا ، من المال ، ويَكون{[8659]} الفرس بالدريهمات .
قيل : يا رسول الله ، وما يرخص الفرس ؟ قال : " لا تركب{[8660]} لحرب أبدًا " قيل له : فما يُغلي الثور ؟ قال : " تُحْرث الأرض كلها " .
وإن قَبْلَ خروج{[8661]} [ الدجال ] ثلاث سنوات شداد ، يصيب الناس فيها جوع شديد ، يأمر الله السماء في السنة [ الأولى أن تحبس ثلث مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ، ثم يأمر الله السماء في السنة ]{[8662]} الثالثة فتحبس مطرها كله ، فلا تَقْطر قطرة ، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله ، فلا تُنْبتُ خضراء ، فلا تبقى ذات ظلْف إلا هلكت ، إلا ما شاء الله " .
فقيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان ؟ قال : " التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ، ويجرى ذلك عليهم مجرى الطعام " .
قال ابن ماجه : سمعت أبا الحسن الطَّنَافِسي يقول : سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول : ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب ، حتى يعلمه الصبيان في الكتاب .
هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه{[8663]} ، ولبعضه شواهد من أحاديث أخر ؛ ولنذكر حديث النواس بن سمعان هاهنا لشبهه بسياقه هذا الحديث ، قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا أبو خَيْثَمَةَ زُهَير بن حرب ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه جبير بن نُفَير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي( ح ) وحدثنا محمد بن مِهْران الرازي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه جُبَيْر ، بن نُفَيْر ، عن النوّاس بن سَمْعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ، فخفَّض فيه ورَفَّع ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : " ما شأنكم ؟ " قلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : " غير الدجال أخْوَفُني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجيجه دونكم ، وإن يَخْرُجْ ولست فيكم فامرؤ حَجيجُ نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم : إنه شابٌّ قَططُ عينه طافية ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن ، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارجُ خَلَّة بين الشام والعراق ، فعاثَ يمينًا وعاثَ شمالا . يا عباد الله ، فاثبتوا " : قلنا : يا رسول الله ، وما{[8664]} لَبْثَتَه{[8665]} في الأرض ؟ قال : " أربعين يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " .
قلنا : يا رسول الله ، فذلك{[8666]} اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : " لا اقدروا له قدره " . قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال{[8667]} كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على قوم فيدعوهم ، فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماءَ فتمطر ، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتُهم أطول ما كانت ذُرَي ، وأسبغه ضُروعا ، وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم ، فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم ، فيصبحون مُمْحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم . ويمر بالخَرِبة فيقول لها : أخرجي كنوزك . فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل . ثم يدعو رجلا ممتلئًا شبابًا ، فيضربه بالسيف ، فيقطعه جزْلتين رَمْيَةَ الغرض ، ثم يدعوه فيُقْبلُ ويتهلل{[8668]} وجهه ويضحك{[8669]} فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم ، عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مَهْرودَتَيْنِ ، واضعًا كفيه على أجنحة مَلَكين ، إذا طأطأ رأسه قَطَر ، وإذا رفعه تَحدّر منه جُمَان كاللؤلؤ ، ولا يَحل لكافر يجد ريح نَفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي{[8670]} حيث ينتهي طَرفه ، فيطليه حتى يدركه بباب لُدّ فيقتله .
ثم يأتي عيسى ، عليه السلام ، قومًا قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدِّثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما{[8671]} هو كذلك إذ أوحى الله ، عز وجل ، إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يَدَانِ لأحد بقتالهم ، فحرّز عبادي إلى الطور .
ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنْسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طَبَرية{[8672]} فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم{[8673]} فيقولون : لقد كان بهذه مَرّة ماء . ويُحْصَر نبي الله عيسى وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا{[8674]} من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة .
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهُمْ ونَتْنُهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرًا كأعناق البُخْت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله .
ثم يرسل الله مطرا لا يكُن{[8675]} منه بيت مَدَر ولا وَبَر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلَفَة ، ثم يقال للأرض : أخرجي ثَمَرَك ورُدّي بركتك . فيومئذ تأكل العُصَابة من الرمانة ، ويستظلون بقَحْفِها ، ويبارك الله في الرَّسْل حتى إن اللَّقْحَة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من الفَم لتكفى الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يَتَهَارَجُون فيها تهارُجَ الحُمُر ، فعليهم تقوم الساعة " {[8676]} .
ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، به . وسنذكره أيضًا من طريق أحمد ، عند قوله تعالى في سورة الأنبياء : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [ وَهُمْ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ]{[8677]} } [ الأنبياء : 96 ] .
حديث آخر : قال مسلم في صحيحه أيضًا : حدثنا عبيد الله{[8678]} بن معاذ بن معاذ العَنْبِريّ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم قال : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو - وجاءه رجل فقال - : ما هذا الحديث الذي تُحدث به تقول : إن الساعة تقوم إلى{[8679]} كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله ؟ ! - أو : لا إله إلا الله ، أو كلمة نحوها - لقد هممتُ ألا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا : يُحرِّق البيت ، ويكون ويكون . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الدجال في أمتي ، فيمكث أربعين ، لا أدري أربعين يومًا ، أو أربعين شهرًا ، أو أربعين عامًا ، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم ، كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير{[8680]} - أو إيمان - إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كَبَد جبل لَدَخَلَتْه عليه حتى تَقْبضَه " قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فيبقى شرار الناس في خفَّة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرًا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم ، حسن عيشهم . ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا ، ورفع لِيتًا ، قال : وأول من يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله ، قال : فَيَصْعَقُ ويَصعَقُ الناس . ثم يرسل الله - أو قال : ينزل الله - مطرًا كأنه الطَّل - أو قال : الظل - نُعْمَان الشاك{[8681]} - فتنبت منه أجساد الناس ، ثم يَنْفُخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] قال : " ثم يقال : أخرجوا بَعْثَ النار . فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين " . قال{[8682]} { يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } [ المزمل : 17 ] وذلك { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [ القلم : 42 ] .
ثم رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعًا عن محمد بن بشار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، به{[8683]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبيد الله{[8684]} بن ثعلبة الأنصاري ، عن عبد الله بن يزيد{[8685]} الأنصاري ، عن مُجَمِّع بن جارية{[8686]} قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لُدّ - أو : إلى جانب لُدّ " {[8687]} .
ورواه أحمد أيضا ، عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي ، ثلاثتهم عن الزُّهري ، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة ، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مُجَمِّع ابن جارية{[8688]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقتل ابن مريم الدجال بباب لُد " .
وكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الليث ، به . وقال : هذا حديث صحيح . قال : وفي الباب عن عمران بن حصين ، ونافع بن عتبة ، وأبي بَرْزَة ، وحذيفة بن أسيد ، وأبي هريرة . وكَيْسان ، وعثمان بن أبي العاص ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وسَمُرة بن جُنْدب ، والنواس بن سمعان ، وعمرو بن عوف ، وحذيفة بن اليمان ، رضي الله عنهم{[8689]} {[8690]} .
ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال . وقتل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، له . فأما أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جدًّا ، وهي أكثر من أن تحصر ؛ لانتشارها وكثرة رواتها في الصحاح والحسان والمسانيد ، وغير ذلك{[8691]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن فُرَات ، عن أبي الطُّفَيل ، عن حذيفة بن أسيد الغِفَاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة حتى ترون عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدُّخَان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول{[8692]} عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خُسوف : خَسْف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب . ونار تخرج من قعر عَدَن ، تسوق - أو تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتَقيل معهم حيث قالوا " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فُرَات القزاز{[8693]} به . ورواه مسلم أيضًا من رواية عبد العزيز بن رُفَيع عن أبي الطفيل عن أبي سَريحَة حذيفة بن أُسَيد الغفاري ، موقوفًا{[8694]} والله أعلم .
فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة ، وابن مسعود ، وعثمان بن أبي العاص ، وأبي أمامة ، والنواس بن سمعان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومُجَمِّع بن جارية{[8695]} وأبي سَرِيحة وحذيفة بن أُسَيْد ، رضي الله عنهم .
وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه ، من أنه بالشام ، بل بدمشق ، عند المنارة{[8696]} الشرقية ، وأن ذلك يكون عند إقامة الصلاة للصبح{[8697]} وقد بنيت في هذه الأعصار ، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأمَويّ بيضاء ، من حجارة منحوتة ، عِوَضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وكان أكثر عمارتها من أموالهم ، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها [ المسيح ]{[8698]} عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين ، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان ، حيث تنزاح عللهم ، وترتفع شبههم من أنفسهم ؛ ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام مُتَابَعَة لعيسى ، عليه السلام ، وعلى يديه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ]{[8699]} } .
وهذه الآية كقوله [ تعالى ]{[8700]} { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } [ الزخرف : 61 ] وقرئ : " عَلَم " بالتحريك ، أي إشارة{[8701]} ودليل على اقتراب الساعة ، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال ، فيقتله الله على يديه ، كما ثبت في الصحيح : " إن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء " {[8702]} ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج ، فيهلكهم الله [ به ]{[8703]} ببركة دعائه ، وقد قال تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ . وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } الآية [ الأنبياء : 96 ، 97 ] .
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[8704]} فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل " . وفي حديث النواس بن سمعان : " فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مَهْرُودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدّر منه مثل جُمَان اللؤلؤ ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرْفُه " .
وروى البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى " ، قال : فَنَعَتَه " فإذا رجل - حسبته قال : - مضطرب{[8705]} رجْلُ الرأس ، كأنه من رجال شنوءة " . قال : " ولقيت عيسى " فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " رَبْعَة أحمر ، كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " {[8706]} الحديث .
وروى البخاري ، من حديث مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت موسى وعيسى وإبراهيم ، فأما{[8707]} عيسى فأحمر جَعْدُ عريض الصدر ، وأما موسى فآدم جسيم سبط ، كأنه من رجال الزّط " {[8708]} .
وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة ، عن نافع قال : قال عبد الله بن عمر : ذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظَهْرَاني الناس المسيح الدجال فقال : " إن الله ليس بأعور ، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنَبَةٌ طافية وأراني الله عند الكعبة في المنام ، فإذا رجل آدَم ، كأحسن ما ترى من أدم الرجال ، تضرب لمَّته بين منكبيه ، رَجْل الشعر ، يقطر رأسه ماء ، واضعا يديه على منكبي رجلين ، وهو يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : المسيح ابن مريم{[8709]} ثم رأيت وراءه رجلا جَعْدًا قَطَطًا ، أعور عين اليمنى ، كأشبه من رأيت بابن قَطَن ، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : المسيح الدجال " . تابعه عبيد الله عن نافع{[8710]} .
ثم رواه{[8711]} البخاري عن أحمد بن محمد المكِّي ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : لا والله ما قال النبي صلى الله عليه سلم لعيسى [ عليه السلام ]{[8712]} أحمر ، ولكن قال : " بينما أنا نائم أطوف بالكعبة ، فإذا رجل آدم سَبْط الشعر ، يتهادى بين رجلين يَنْطف رأسه ماء - أو يُهرَاق رأسه ماء - فقلت : من هذا ؟ فقالوا : ابن مريم . فذهبت ألتفت ، فإذا رجل أحمر جسيم ، جَعْد الرأس ، أعور عينه اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية . قلت : من هذا ؟ قالوا : الدجال . وأقرب الناس به شبها ابن قَطَن " . قال الزهري : رجل من خزاعة هلك في الجاهلية{[8713]} .
هذه كلها ألفاظ البخاري ، رحمه الله ، وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة : أن عيسى ، عليه السلام ، يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ، ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون .
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم : أنه يمكث سبع سنين ، فيحتمل - والله أعلم - أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة ، مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله ، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح ، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة : أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة . وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رُفع وله مائة وخمسون سنة ، فشاذ غريب بعيد . وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم من تاريخه ، عن بعض السلف : أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته ، فالله أعلم{[8714]} .
وقوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله ، وأقر بالعبودية لله{[8715]} عز وجل ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ ]{[8716]} الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 116 - 118 ] .
وقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } اختلف المتأولون في معنى الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم : الضمير في { موته } راجع إلى عيسى ، والمعنى أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن سائر البشر ، وترجع الأديان كلها واحداً ، وقال مجاهد وابن عباس أيضاً وغيرهما : الضمير في { به } لعيسى وفي { موته } للكتابي الذي تضمنه قوله { وإن من أهل الكتاب } التقدير : وإن من أهل الكتاب أحد{[4368]} ، قالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله ، ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت ، فهو إيمان لا ينفعه ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة ، وقال هذا القول عكرمة والضحاك والحسن بن أبي الحسن أيضاً ، وقال عكرمة أيضاً : الضمير في { به } لمحمد عليه السلام ، و { قبل موته } للكتابي ، قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت ، وفي مصحف أبي بن كعب «قبل موتهم » ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي ، وقرأ الفياض بن غزوان «وإنّ من أهل الكتاب » بتشديد «إن » والضمير المستتر في يكون هو لعيسى عليه السلام في جل الأقوال ، ولمحمد عليه السلام في قول عكرمة .
عطف على جملة { وما قتلوه } [ النساء : 157 ] . وهذا الكلام إخبار عنهم ، وليس أمراً لهم ، لأنّ وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية . و { إن } نافية و { من أهل الكتاب } صفة لموصوف محذوف تقديره : أحد .
والضمير المجرور عائد لعيسى : أيّ ليومنَنّ بعيسى ، والضمير في { موته } يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب ، أي قبل أن يموت الكتابيّ ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب { إلا ليؤمنن به قبل موته } . وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى ؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل ، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود . والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته ، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه ، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى ، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم ، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه . وقيل : كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله .
وعندي أنّ ضمير { به } راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل { رفعه الله إليه } [ النساء : 158 ] ، ويعمّ قولُه { أهلِ الكتاب } اليهودَ ، والنّصارى ، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب .
والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب ، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام .
وقيل : الضمير في قوله { موته } عائد إلى عيسى ، أي قبل موت عيسى ، ففرّع القائلون بهذا تفاريع : منها أنّ موته لا يقع إلاّ آخر الدنيا ليتمّ إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت ، لأنّ الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته ، فلزم أن يكون موته مستقبلاً ؛ ومنها ما ورد في الحديث : أنّ عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدّة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب ، ولا يخفى أنّ عموم قوله : { وإن من أهل الكتاب } يبطل هذا التفسير : لأنّ الَّذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم .
والشهيد : الشاهد ؛ يشهد بأنّه بلّغ لهم دعوة ربّهم فأعرضوا ، وبأنّ النّصَارى بدّلوا ، ومعنى الآية مفصّل في قوله تعالى : { يوم يجمع الله الرسل } الآيَات في سورة العقود ( 109 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن}: وما من أهل الكتاب، يعني اليهود، إلا ليؤمنن {به}: بعيسى صلى الله عليه وسلم، {قبل موته} أنه نبي رسول قبل موت اليهودي، يعني عند موته، لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وتقول: يا عدو الله، إن المسيح الذي كذبتم به، هو عبد الله ورسوله حقا، فيؤمن به ولا ينفعه، ويؤمن به من كان منهم حيا إذا نزل عيسى صلى الله عليه وسلم... ثم قال تعالى: {ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا}: أنه قد بلغهم الرسالة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ" يعني بعيسى "قَبْلَ مَوْتِهِ": قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدّقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابي إذا عاين علم الحقّ من الباطل، لأن كلّ من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحقّ من الباطل في دينه. وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي.
وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جلّ ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة، فلو كان كلّ كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم، وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغ مسلم، كان ميراثه مصروفا حيث يصرف مال المسلم، يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره، لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد وبجميع الرسل وذلك أن عيسى صلوات الله عليه جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به مصدّق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله، كما أن المؤمن بمحمد مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله، فغير جائز أن يكون مؤمنا بعيسى من كان بمحمد مكذّبا.
فإن ظنّ ظانّ أن معنى إيمان اليهوديّ بعيسى، الذي ذكره الله في قوله: "وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ "إنما هو إقراره بأنه لله نبيّ مبعوث دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله، فقد ظنّ خطأ. وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبا إلى الإقرار بنبوّة نبيّ من كان له مكذّبا في بعض ما جاء به من وحي الله وتنزيله، بل غير جائز أن يكون منسوبا إلا الإقرار بنبوةّ أحد من أنبياء الله لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمته من عند الله مكذب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين عباد الله. وإذ كان ذلك كذلك، كان في إجماع الجميع من أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه وما جاء به من عند الله، محكوم له بحكم المسألة التي كان عليها أيام حياته، غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته، أدلّ الدليل على أن معنى قول الله: "وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" إنما معناه: إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاصّ من أهل الكتاب، ومعنىّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله، كالذي:
حدثني بشر بن معاذ، قال: ثني يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأنْبِياءُ إخْوَةٌ لِعَلاّتٍ أُمّهاتُهُمْ شَتّى وَديِنُهُمْ وَاحِدٌ، وإنّي أوْلى النّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيّ. وَإنّهُ نازِلٌ، فإذَا رأيْتُمُوهُ فاعْرِفُوهُ، فإنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ وَالبَياضِ، سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بينَ مُمَصّرَتَيْنِ، فَيَدُقّ الصّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الجزْيَةَ، وَيُفِيضُ المَالُ، وَيُقاتِلِ النّاسَ على الإسْلامِ حتى يُهْلِكَ اللّهُ فِي زَمانِهِ المِلَلَ كُلّها غيرَ الإسْلامِ، ويُهْلِكُ اللّهُ فِي زَمانِهِ مَسِيحَ الضّلالَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ، وَتَقَعُ الأمَنَةُ فِي الأرْضِ فِي زَمانِهِ حتى تَرْتَعَ الأُسُودُ معَ الإبِلِ والنّمُورُ مَعَ البَقَرِ وَالذّئابُ مَعَ الغَنمِ، وَتَلْعَبُ الغِلْمانُ وَالصبْيانُ بالحَيّاتِ لا يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا، ثُمّ يَلْبَثُ فِي الأرْضِ ما شاء الله» وربما قال: «أربعين سنة، ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه».
وأما الذي قال: عني بقوله: "لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ": ليؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي، فمما لا وجه له مفهوم لأنه مع فساده من الوجه الذي دللّنا على فساد قول من قال: عنى به: ليؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابيّ، يزيده فسادا أنه لم يجر لمحمد عليه الصلاة والسلام في الآيات التي قبل ذلك ذكر، فيجوز صرف الهاء التي في قوله: لَيُؤْمِنَنّ بِهِ إلى أنها من ذكره، وإنما قوله: لَيُؤْمِنَنّ بِهِ في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود، فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرسول تقوم به حجة فأما الدعاوي فلا تتعذّر على أحد. فتأويل الآية إذ كان الأمر على ما وصفت: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وحذف «مَنْ» بعد «إلا» لدلالة الكلام عليه، فاستغني بدلالته عن إظهاره كسائر ما قد تقدمّ من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها.
"وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا": وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عيسى على أهل الكتاب "شَهِيدا": شاهدا عليهم بتكذيب من كذّبه منهم، وتصديق من صدّقه منهم فيما أتاهم به من عند الله وبإبلاغه رسالة ربه... وَيَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا أنه قد أبلغهم ما أرسله به إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} فإنه قد بلغ رسالة ربه إليهم، وأقر على نفسه بالعبودة. وقيل: الشهيد الحافظ. وقيل: {ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} يكون محمد عليهم شهيدا. وهذا كله محتمل، والله أعلم بما أراد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاماً للحجة لهم، وكذلك قولهُ: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أنجز الكلام إلى أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على هذا المنهاج البديع بما ذكر في نصائح اليهود وقبائح أفعالهم، وأنهم قصدوا قتله عليه الصلاة والسلام، فخاب قصدهم، واصلد زندُهم، وقال رأيهم، ورد عليهم بغيهم، وحصل له بذلك أعلى المناصب وأولى المراتب؛ قال محققاً لما أثبته في الآية قبلها من القطع بكذبهم، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره الذي منه التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له: {وإن} أي والحال أنه ما {من أهل الكتاب} أي أحد يدرك نزوله في آخر الزمان {إلا} وعزتي {ليؤمنن به} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام {قبل موته} أي موت عيسى عليه الصلاة والسلام، أي إنه لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان، يؤيد الله دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل، إشارة إلى أن موسى عليه الصلاة والسلام إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً، فالنبي الذي نسخ شريعة موسى -وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام- هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته وتمهيد أمره والذب عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة وأتباع مستكثرة، أمر قضاء الله في الأزل فأمضاه، فأطيلوا أيها اليهود أو أقصروا! فمعنى الآية إذن -والله أعلم- أنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه الصلاة والسلام على شك إلا وهو يوقن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موته بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة -والله أعلم؛ روى الشيخان وأحمد وأبو بكر بن مردويه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عادلاً، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها"؛ وفي رواية: وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين؛ وفي رواية: حتى يهلك الله الملل كلها غير الإسلام، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} الآية: موت عيسى عليه الصلاة والسلام- ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات -ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد؛ وفي رواية: ويفيض المال حتى لا يقبله أحد؛ ولمسلم عنه رضي الله عنه: كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؛ وفي رواية: فأمكم منكم، قال الوليد بن مسلم- أحد رواة الحديث: قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني! قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ ولمسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا! فيقول: لا! إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة؛ وروى عن ابن عباس ومحمد بن علي المشهور بابن الحنفية رضي الله عنهم أن المعنى: ألا ليؤمنن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة حين لا ينفعه الإيمان، ليكون ذلك زيادة في حسرته، قال الأصبهاني: وتدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ: ليؤمنن قبل موتهم -بضم النون.
ولما أخبر تعالى عن حالهم معه في هذه الدار أتبعه فعله بهم في تلك فقال: {ويوم القيامة} أي الذي يقطع ذكره القلوب، ويحمل التفكر فيه على كل خير ويقطع عن كل شر {يكون} وأذن بشقائهم بقوله: {عليهم شهيداً} أي بما عملوا؛
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإن من أهل الكتاب} أي وما من أهل الكتاب أحد {إلا ليؤمنن به} أي ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا وهو أنه عبد الله ورسوله وآيته للناس {قبل موته} أي قبل موت ذلك الأحد الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. وحاصل المعنى أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وغيره من أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيمانا صحيحا، فاليهودي يعلم أنه رسول صادق غير دعي ولا كذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله فلا هو إله ولا ابن الله.
{ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} يشهد عليهم، بما تظهر به حقيقة أمره معهم، ومنه ما حكاه عنه في آخر سورة المائدة {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} [المائدة:117] وقد يشهد للمؤمن منهم في حال الاختبار والتكليف بإيمانه، وعلى الكافر بكفره، لأنه مبعوث إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى: {فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء:42] وذهب بعضهم إلى أن المراد أن كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى قبل موت عيسى وهذا مبني على القول تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي} وهم على هذا يحتاجون إلى تأويل النفي العام هنا بتخصيصه بمن يكون منهم حيا عند نزوله فيقولون: المعنى وما من أحد من أهل الكتاب الذين ينزل المسيح من السماء إلى الأرض وهم أحياء إلا ليؤمنن به ويتبعنه. والمتبادر من الآية المعنى الأول وهذا التخصيص لا دليل عليه وهو مبين على شيء لا نص عليه في القرآن حتى يكون قرينة له. والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسرة للآية.
أما المعنى الأول الذي هو الظاهر المتبادر من النظم البليغ فيؤيده ما ورد من اطلاع الناس قبل موتهم من الآخرة ومن كونهم يبشرون برضوان الله وكرامته أو بعذابه وعقوبته. ففي حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضر الموت (بضم الحاء أي حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته. وروى أحمد والنسائي من حديث أنس وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت وعن عائشة زيادة في حديث (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) الذي في الصحيحين وغيرهما وهي أنهم قالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت فقال: (ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب لقاءه. وأن الفاجر إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه) وروى ابن مردويه وابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس (ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار) وروى عن ابن أبي الدنيا عن رجل لم يسم عن علي مرفوعا. فهذه الأحاديث تؤيد ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير الآية من كون الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح، ومما يؤيد هذه الحقيقة النص في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق. ولها دلائل أخرى كالأحاديث الواردة في عدم قبول التوبة عند الغرغرة والله أعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونعود من هذا الاستطراد، مع عودة السياق القرآني إلى بقية هذا الاستدراك:
(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته؛ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا).
وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية، باختلافهم في عائد الضمير في "موته "فقال جماعة: وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى -عليه السلام- قبل موته -أي عيسى- وذلك على القول بنزوله قبيل الساعة.. وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى قبل موته.. أي موت الكتابي -وذلك على القول بأن الميت- وهو في سكرات الموت -يتبين له الحق، حيث لا ينفعه أن يعلم!
ونحن أميل إلى هذا القول الثاني؛ الذي ترشح له قراءة أبى: "إلا ليؤمنن به قبل موتهم".. فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير؛ وأنه أهل الكتاب.. وعلى هذا الوجه يكون المعنى: أن اليهود الذين كفروا بعيسى- عليه السلام -وما زالوا على كفرهم به، وقالوا: إنهم قتلوه وصلبوه، ما من أحد منهم يدركه الموت، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح، فيرى أن عيسى حق، ورسالته حق، فيؤمن به، ولكن حين لا ينفعه إيمان.. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل انزهاق روحه، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه. وقيل: كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله. وعندي أنّ ضمير {به} راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل {رفعه الله إليه} [النساء: 158]، ويعمّ قولُه {أهلِ الكتاب} اليهودَ، والنّصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب. والظاهر أنّ الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشكّ في صحّة الصلب، فلا يزال الشكّ يخالج قلوبهم ويقوَى حتّى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحّة الصلب في آخر أعمارهم تصديقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذّب أخبارهم فنفَى الصلبَ عن عيسى عليه السلام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا نريد أن نشير إلى موقف الإسلام ومن يقولون أنهم نصارى من المسيح عليه السلام: هم يقولون أنه قتل وصلب ليطهر الخليقة من ذنب أبيهم آدم، وأن الله اختار ابنه ليكون فداء، وأما الإسلام فإنه يقول أن الله نجاه ورفعه إلى المنازل العليا.
ولا نريد أن نقول إنهم يرمون الله تعالى بالجهل إذ سكت أزمانا طويلة حتى بدا له أن يجعل ابنه فداء، ولا نريد أن نقول إن العنصر الإلهي كيف حل في مريم البتول، ولا نريد أن نقول إن الله عفا عن آدم، وإن لم يعف فإن العقاب يكون عليه ولا يكون على غيره، لا نريد أن نقول إن هذا كله مخالف لكل معقول ولكن نقول كيف يتصور أن يكون الفداء للخليقة بإنزال ابنه إلى الأرض ليقتله بعض ذرية آدم الذي عصى؟ إن المعقول أن يكونوا قد أضافوا إلى قولهم جريمة أخرى هي قتل ابن الله بل إنها جريمة أشد وأنكى، وإذ قيل لهم ذلك القول قالوا إن الدين له منطق غير منطق العقل. ولكن عيسى ابن مريم الحق فيه ما قاله القرآن ولكنهم يمترون. {قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفؤا أحد (4)} (الإخلاص).
إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق، انتهى كل شيء يبعد الإنسان عن منهج الحق اليقين، ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة ويقول: أنا اتبعت هوى نفسي، ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبه؟ لا، لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون، فقد قال حين أدركه الغرق: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} (من الآية90سورة يونس).