ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته ، وهذه الأدلة منها ما هو أرضى ، ومنها ما هو سماوى ، ومنه ما هو بحري ، وكلها تدل - أيضا - على فضله ورحمته ، قال - تعالى - :
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة . . . } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } وجه تعلقه بما قبله ، أنه - سبحانه - لما قال : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } كان ذلك إشارة إلى الحشر ، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإِنكارهم واستبعادهم ، وعنادهم فقال : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا . . . } أى : وكذلك نحيى الموتى . . .
والمراد بالآية هنا : العلامة والبرهان والدليل .
والمراد بالأرض الميتة : الأرض الجدباء التى لا نبات فيها .
والمراد بالحب : جنسه من حنطة وشعير وغيرهما .
أى : ومن العلامات الواضحة لهؤلاء المشركين على قدرتنا على إحياء الموتى ، أننا ننزل الماء على الأرض الجدباء ، فتهتز وتربو ، وتخرج ألوانا وأصنافا من الحبوب التى يعيشون عليها . ويأكلون منها .
وذكر - سبحانه - لفظ { آية } للإِشعار بأنها آية عظيمة ، كان ينبغى لهؤلاء المشركين أن يلتفتوا إليها ، لأنهم يشاهدون بأعينهم الأرض القاحلة السوداء ، كيف تتحول إلى أرض خضراء بعد نزول المطر عليها .
والله - تعالى - الذى قدر على ذلك ، قادر - أيضا - على إحياء الموتى وإعادتهم إلى الحياة .
وقوله : { أَحْيَيْنَاهَا } كلام مستأنف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية .
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله : { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } للدلالة على أن الحَبَّ هو الشئ الذى تكون منه معظم المأكولات التى يعيشون عليها ، وأن قِلَّتَه تؤدى إلى القحط والجوع .
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون ؛ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ، وفجرنا فيها من العيون ، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم ، أفلا يشكرون ? سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون . .
إنهم يكذبون الرسل ، ولا يتدبرون مصارع المكذبين ، ولا يدركون دلالة كونهم يذهبون ولا يرجعون . والرسل إنما يدعونهم إلى الله . وكل ما في الوجود حولهم يحدثهم عن الله ، ويدل عليه ويشهد بوجوده . وهذه هي الأرض القريبة منهم ، يرونها ميتة لا حياة فيها ، ولا ماء ينشىء الحياة ، ثم يرونها حية تنبت الحب ، وتزدان بالجنات من نخيل وأعناب ، وتتفجر فيها العيون ، فتجري بالحياة حيث تجري .
والحياة معجزة لا تملك يد البشر أن تجريها ؛ إنما هي يد الله التي تجري المعجزات ، وتبث روح الحياة في الموات . وإن رؤية الزرع النامي ، والجنان الوارفة ، والثمر اليانع ، لتفتح العين والقلب على يد الله المبدعة ، وهي تشق التربة عن النبتة المتطلعة للحرية والنور ، وتنضر العود المستشرف للشمس والضياء ، وتزين الغصن اللدن بالورق والثمار ، وتفتح الزهرة وتنضج الثمرة ، وتهيئها للجني والقطاف . .
يقول تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ } أي : دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى { الأرْضُ الْمَيْتَةُ } أي : إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات ، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ؛ ولهذا قال : { أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي : جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم .
عطف على قصة { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } [ يس : 13 ] فإنه ضرب لهم مثلاً لحال إعراضهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه تلك الحال من إشراك وإنكار للبعث وأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعاقبة ذلك كله . ثم أعقب ذلك بالتفصيل لإِبطال ما اشتملت عليه تلك الاعتقادات من إنكار البعث ومن الإِشراك بالله .
وابتدىء بدلالة تقريب البعث لمناسبة الانتقال من قوله : { وإن كُلٌّ لَما جَمِيعٌ لدينا مُحْضَرُون } [ يس : 32 ] على أن هذه لا تخلو من دلالتها على الانفراد بالتصرف ، وفي ذلك إثبات الوحدانية .
و { وءَايَةٌ } مبتدأ و { لَّهُمُ } صفة { آية } ، و { الأرْضُ } خبر { آية } ، و { المَيْتَةُ } صفة { الأرْضُ } . وجملة { أحْيَيْناهَا } في موضع الحال من { الأرْضُ } وهي حال مقيدة لأن إحياء الأرض هو مناط الدلالة على إمكان البعث بعد الموت ، أو يكون جملة { أحْيَيْناها } بياناً لجملة { آية لهم الأرض } لبيان موقع الآية فيها ، أو بدل اشتمال من جملة { آية لهم الأرض } ، أو استئنافاً بيانياً كأنّ سائلاً سأل : كيف كانت الأرض الميتة ؟
وموت الأرض : جفافها وجَرازتها لخلوّها من حياة النبات فيها ، وإحياؤها : خروج النبات منها من العشب والكلأ والزرع .
وقرأ نافع وأبو جعفر { المَيِّتَةُ } بتشديد الياء . وقرأ الباقون بتخفيف الياء ، والمعنى واحد وهما سواء في الاستعمال .
والحبّ : اسم جمع حبّة ، وهو بَزرة النبت مثل البُرّة والشعيرة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } في سورة البقرة ( 261 ) .
وإخراج الحب من الأرض : هو إخراجه من نباتها فهو جاء منها بواسطة . وهذا إدماج للامتنان في ضمن الاستدلال ولذلك فرّع عليه { فَمِنْهُ يأكلون . } وتقديم { منه } على { يأكُلُونَ } للاهتمام تنبيهاً على النعمة ولرعاية الفاصلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.