قال الآلوسى : قوله تعالى { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً } تحريض على القتال بأبلغ وجه - ، لأن الاستفهام فيه للإِنكار ، والاستفهام الإِنكارى في معنى النفى ، وقد دخل هنا على نفى ، ونفى النفى إثبات . وحيث كان الترك منكراً أفاد بطريق برهانى أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه ، فيفيد الحث والتحريض عليهم . بأقوى الأدلة ، وأسمى الأساليب .
وقد ذكر - سبحانه - هنا ثلاثة أسباب كل واحد منها يحمل المؤمنين على قتال المشركين بغلظة وشجاعة .
أما السبب الأول فهو قوله تعالى : { نكثوا أَيْمَانَهُمْ } أى : نقضوا عهودهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لتأكيد هذه العهود .
ومن مظاهر ذلك أن هؤلاء المشركين الذين تعاهدوا معكم في صلح الحديبية على ترك القتال عشر سنين . قد نقضوا عهودهم بمساعدة حلفائهم بنى بكر على قتال حلفائكم بنى خزاعة عند أول فرصة سنحت لهم .
والسبب الثانى قوله . سبحانه . { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } والهم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه .
أى : وهموا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة التي ولد فيها وعاش بها زمنا طويلا . . لكنهم لم يستطيعوا ذلك ، بل خرج باختيار . وبإذن الله له في الهجرة .
وقد فصل سبحانه . ما هموا به في قوله { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } وإنما اقتصر ، سبحانه ، في الآية التي معنا على همهم بإخراجه . صلى الله عليه وسلم . من مكة ، مع أن آية الأنفال قد بينت أنهم قد هموا بأحد أمور ثلاثة - لأن الإِخراج هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر ، أما القتل والحبس فلم يكن لهما أثر في الخارج .
وقيل : إنه سبحانه . قد اقتصر على الأدنى وهو الهم بالإِخراج ، ليعلم غيره بالطريق الأولى ، إذ الإِخراج أهون من القتل والحبس .
وأما السبب الثالث فهو قوله . سبحانه . { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أى : وهم الذين كانوا بادئين بقتالكم في أول لقاء بينكم وبينهم وهو يوم بدر ، كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم في كل قتال بعد ذلك ، كما حدث منهم في أحد والخندق وكما حدث منهم مع حلفائكم من بنى خزاعة .
قال صاحب الكشاف : قوله : { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أى : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال . فهم البادئون بالقتال والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقابلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم ؟
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد ذكرت ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بحمل المؤمنين على قتال المشركين . . فكيف وقد توفرت هذه الأمور الثلاثة في هؤلاء المشركين ؟ .
ولم تكتف الآية الكريمة بهذا التهيج والتحريض للمؤمنين على القتال ، بل أمرتهم بأن تكون خشيتهم من الله وحده ، فقال سبحانه { أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } .
أى : أتتركون - أيها المؤمنون - قتال هؤلاء المشركين الذين { نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } خشية منهم . . ؟ لا ، إن هذا لا يليق بكم ، وإنما الذي يليق بكم - إن كنتم مؤمنين حقا - أن تكون خشيتكم من الله وحده .
قال الإِمام الرازى : وهذا الكلام يقوى داعية القتال من وجوه :
الأول : أن تعديد الموجبات الموقية وتفصيلها مما يقوى هذه الداعية .
الثانى : أنك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك ؟ كان ذلك تحريكا لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه .
الثالث : أن قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } يفيد ذلك كأنه قيل : إن كنت تخشى أحدا فالله أحق أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة . .
الرابع : أن قوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } معناه : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا ، وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه : أنكم إذا لم تقدموا لا تكونوا كذلك ، فثبت أن هذا الكلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد .
( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ، وهموا بإخراج الرسول ، وهم بدأوكم أول مرة ? أتخشونهم ? فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، ويخزهم وينصركم عليهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم . أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ? والله خبير بما تعملون ) . .
تجيء هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة التي تقرر فيها الاستنكار من ناحية المبدأ لأن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ؛ والأمر بتخيير المشركين في الجزيرة بين الدخول فيما دخل فيه المسلمون أو قتالهم - إلا من استجار فيجار حتى يسمع كلام الله ثم يبلغ مأمنه خارج دار الإسلام - وبيان علة هذا الاستنكار ؛ وهي أنهم لا يرعون إلا ولا ذمة في مؤمن متى ظهروا على المؤمنين .
تجيء هذه الفقرة لمواجهة ما حاك في نفوس الجماعة المسلمة - بمستوياتها المختلفة التي سبق الحديث عنها - من تردد وتهيب للإقدام على هذه الخطوة الحاسمة ! ومن رغبة وتعلل في أن يفيء المشركون الباقون إلى الإسلام دون اللجوء إلى القتال الشامل ! ومن خوف على النفوس والمصالح وركون إلى أيسر الوسائل ! .
والنصوص القرآنية تواجه هذه المشاعر والمخاوف والتعلات باستجاشة قلوب المسلمين بالذكريات والأحداث القريبة والبعيدة . تذكرهم بنقض المشركين لما أبرموه معهم من عهود وما عقدوه معهم من أيمان . وتذكرهم بما هم به المشركون من إخراج الرسول [ ص ] من مكة قبل الهجرة . وتذكرهم بأن المشركين هم الذين بدأوهم بالاعتداء في المدينة . . ثم تثير فيهم الحياء والنخوة أن يكونوا إنما يخشون لقاء المشركين . والله أولى أن يخشوه إن كانوا مؤمنين .
وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم ، الذين هموا بإخراج الرسول من مكة ، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] .
وقال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ] } {[13278]} الآية [ الممتحنة : 1 ] وقال تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 76 ]وقوله { وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قيل : المراد بذلك يوم بدر ، حين خرجوا لنصر عيرهم{[13279]} فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم{[13280]} طلبا للقتال ، بغيا وتكبرا ، كما تقدم بسط ذلك .
وقيل : المراد نقضهم العهد وقتالهم{[13281]} مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى{[13282]} سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، وكان ما كان ، ولله الحمد .
وقوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } {[13283]} يقول تعالى : لا تخشوهم واخشون ، فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي ، فبيدي الأمر ، وما شئت كان ، وما لم أشأ لم يكن .
قوله { ألا تقاتلون } عرض وتحضيض ، وقوله { وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة } ، قال الحسن بن أبي الحسن : المراد من المدينة ، وهذا مستقيم كغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وقال السدي : المراد من مكة فهذا على أن يكون المعنى هموا وفعلوا ، أو على أن يقال هموا بإخراجه بأيديهم فلم يصلوا إلى ذلك بل خرج بأمر الله عز وجل ، وهذا يجري مع إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث قوله : [ الطويل ]
وردني إلى الله من*** طردته كل مطرد
ولا ينسب الإخراج إليهم إلا إذا كان الكلام في طريق تذنيبهم كما قال تعالى { وإخراج أهله منه أكبر عند الله }{[5547]} وقوله : { من قريتك التي أخرجتك }{[5548]} ، والأول هو على أن ما فعلوا به من أسباب الإخراج هو الإخراج ، وقوله { أول مرة } قيل يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، وقال مجاهد : يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء رسول الله عليه وسلم ، فكان هذا بدء النقض ، وقال الطبري : يعني فعلهم يوم بدر ، وقوله { أتخشونهم } استفهام على معنى التقرير والتوبيخ ، وقوله { فالله } مرتفع بالابتداء و { أحق } خبره ، { أن تخشوه } بدل من اسم الله بدل اشتمال أو في موضع نصب على إسقاط خافض تقديره بأن تخشوه ، ويجوز أن يكون { الله } ابتداء و { أحق } ابتداء ثان{[5549]} و { أن تخشوه } خبر الثاني والجملة خبر الأول ، وقوله { إن كنتم مؤمنين } كما تقول افعل كذا إن كنت رجلاً أي رجلاً كاملاً ، فهذا معناه إن كنتم مؤمنين كاملي الإيمان ، لأن إيمانهم قد كان استقر .