اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (13)

قوله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } لما قال { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم ، فقال { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } نقضُوا عهودهم ، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة ، { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة . وقيل : المراد من المدينة ، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل ، وقيل : بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج ، وهو نقيضُ العهدِ ، وإعانة أعدائه ، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه .

وقوله : { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } إمَّا بالفعل ، وإمَّا بالعزم عليه ، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه ، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء ، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد ، فكيف إذا اجتمعت ؟ .

أحدها : نكثهم العهد .

والثاني : أنهم همُّوا بإخراج الرسول ، وهذا من أوكد موجبات القتال .

والثالث : قوله { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : بالقتال يوم بدر ؛ لأنَّهم حين سلم العير ، قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه .

وقال ناسٌ{[17634]} من المفسِّرين : أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسنُ : لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك ؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة .

وقوله : " أَوَّلَ مرَّةٍ " نصبٌ على ظرف الزَّمانِ ، وأصلها المصدر من " مَرَّ يَمُرُّ ، كما تقدم [ الأنعام : 94 ] .

قوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } الجلالةُ مبتدأ ، وفي الخبر أوجهٌ :

أحدها : أنَّهُ " أحَقُّ " ، و " أن تخْشَوْهُ " على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، والتقدير : فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم .

الثاني : أَنَّ " أَحَقُّ " خبر مقدم ، و " أَن تَخْشَوهُ " مبتدأ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الجلالة .

الثالث : أنَّ " أَحَقُّ " مبتدأ ، و " أن تَخْشَوهُ " خبره ، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة ، قاله ابن عطية{[17635]} ، وحسن الابتداء بالنكرة ، لأنها أفعل تفضيل ، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه .

الرابع : أنَّ " أن تخشوه " في محلِّ نصب ، أو جرٍّ ، بعد إسقاطِ الخافضِ ، إذ التقدير : أحقُّ بأن تخشوه ، وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } شرطٌ حذف جوابه ، أو قُدِّم على حسب الخلاف [ الأنفال : 1 ] .

فصل

هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه :

الأول : أنَّ تقرير الموجبات القويَّة ، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية .

الثاني : أنَّك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك ؛ فكأنك تحرضه على القتال ، أي : لا تخف منه .

والثالث : قوله { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } أي : إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة ، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل ، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة ، والذم اللازم في الدُّنيا .

والرابع : قوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } أي : إن كنتم موقنين بالإيمان ، وجب عليكم القتال ، أي : إنكم إن لم تقدموا على القتال ، وجب أن لا تكونوا مؤمنين .

فصل

حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا : " إذا قلت : ألا تفعل كذا ، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده ، وإذا قلت : ألست تفعل ، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده ، والفرقُ بينهما أنَّ " لا " ينفى بها المستقبل ، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل ، و " ليس " إنما تستعمل لنفي الحال ، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال " .

فصل

نقل عن ابن عباس أنه قال قوله : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً } ترغيب في فتح مكَّة{[17636]} وقوله : { قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } أي : عهدهم ، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة ، كما تقدم .

وقال الحسنُ " لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك ؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة " {[17637]} .

فصل

قال الأصم " دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال ، لقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات " . قال القاضي " إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ، ولا مُقصراً فيه ، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال ، لا يصح أيضاً ، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد ، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع " .

فصل

قال القرطبيُّ " استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين ، إذ هو كافر ، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين ، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله ، واستقامة فروعه " قال ابنُ المنذر : " أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل " . قال القرطبيُّ{[17638]} : " وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك ، لقوله تعالى : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } [ التوبة : 13 ] الآية ، فأمر بقتلهم وقتالهم ، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة : يستتابُ ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث " .

فصل

[ إذا حارب الذميُّ انتقض عهده ، وكان ماله وولده فيئاً معه ]{[17639]} .

فصل

قال القرطبيُّ{[17640]} : " أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذِّمة ، أو عرَّض ، أو استخفَّ بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل ؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا ، لقوله تعالى : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم } الآية ، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة : لا يقتلُ ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم ، ولكن يؤدَّب " .

فصل

قال القرطبي{[17641]} : " اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم أسلم تقية من القتل ، فقيل : يسقطُ القتل بإسلامه ، وهو المشهور من المذاهب ؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله . بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب ، قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقيل : لا يسقط الإسلام قتله ، قاله في العتيبة " .


[17634]:في ب: ابن جماعة.
[17635]:ينظر: المحرر الوجيز 3/13.
[17636]:ذكره الرازي في "تفسيره" (15/188).
[17637]:انظر المصدر السابق.
[17638]:ينظر: تفسير القرطبي 8/53.
[17639]:سقط في ب.
[17640]:ينظر: تفسير القرطبي 8/54.
[17641]:ينظر: تفسير القرطبي 8/54.