التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (13)

قال الآلوسى : قوله تعالى { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً } تحريض على القتال بأبلغ وجه - ، لأن الاستفهام فيه للإِنكار ، والاستفهام الإِنكارى في معنى النفى ، وقد دخل هنا على نفى ، ونفى النفى إثبات . وحيث كان الترك منكراً أفاد بطريق برهانى أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه ، فيفيد الحث والتحريض عليهم . بأقوى الأدلة ، وأسمى الأساليب .

وقد ذكر - سبحانه - هنا ثلاثة أسباب كل واحد منها يحمل المؤمنين على قتال المشركين بغلظة وشجاعة .

أما السبب الأول فهو قوله تعالى : { نكثوا أَيْمَانَهُمْ } أى : نقضوا عهودهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لتأكيد هذه العهود .

ومن مظاهر ذلك أن هؤلاء المشركين الذين تعاهدوا معكم في صلح الحديبية على ترك القتال عشر سنين . قد نقضوا عهودهم بمساعدة حلفائهم بنى بكر على قتال حلفائكم بنى خزاعة عند أول فرصة سنحت لهم .

والسبب الثانى قوله . سبحانه . { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } والهم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه .

أى : وهموا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة التي ولد فيها وعاش بها زمنا طويلا . . لكنهم لم يستطيعوا ذلك ، بل خرج باختيار . وبإذن الله له في الهجرة .

وقد فصل سبحانه . ما هموا به في قوله { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } وإنما اقتصر ، سبحانه ، في الآية التي معنا على همهم بإخراجه . صلى الله عليه وسلم . من مكة ، مع أن آية الأنفال قد بينت أنهم قد هموا بأحد أمور ثلاثة - لأن الإِخراج هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر ، أما القتل والحبس فلم يكن لهما أثر في الخارج .

وقيل : إنه سبحانه . قد اقتصر على الأدنى وهو الهم بالإِخراج ، ليعلم غيره بالطريق الأولى ، إذ الإِخراج أهون من القتل والحبس .

وأما السبب الثالث فهو قوله . سبحانه . { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أى : وهم الذين كانوا بادئين بقتالكم في أول لقاء بينكم وبينهم وهو يوم بدر ، كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم في كل قتال بعد ذلك ، كما حدث منهم في أحد والخندق وكما حدث منهم مع حلفائكم من بنى خزاعة .

قال صاحب الكشاف : قوله : { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أى : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال . فهم البادئون بالقتال والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقابلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم ؟

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد ذكرت ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بحمل المؤمنين على قتال المشركين . . فكيف وقد توفرت هذه الأمور الثلاثة في هؤلاء المشركين ؟ .

ولم تكتف الآية الكريمة بهذا التهيج والتحريض للمؤمنين على القتال ، بل أمرتهم بأن تكون خشيتهم من الله وحده ، فقال سبحانه { أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } .

أى : أتتركون - أيها المؤمنون - قتال هؤلاء المشركين الذين { نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } خشية منهم . . ؟ لا ، إن هذا لا يليق بكم ، وإنما الذي يليق بكم - إن كنتم مؤمنين حقا - أن تكون خشيتكم من الله وحده .

قال الإِمام الرازى : وهذا الكلام يقوى داعية القتال من وجوه :

الأول : أن تعديد الموجبات الموقية وتفصيلها مما يقوى هذه الداعية .

الثانى : أنك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك ؟ كان ذلك تحريكا لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه .

الثالث : أن قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } يفيد ذلك كأنه قيل : إن كنت تخشى أحدا فالله أحق أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة . .

الرابع : أن قوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } معناه : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا ، وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه : أنكم إذا لم تقدموا لا تكونوا كذلك ، فثبت أن هذا الكلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد .