ثم أمر - سبحانه - عباده بالنظر والتأمل فى أحوال خلقه ، ليزدادوا عظة وعبرة ، فقال : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } .
أى : انظر - أيها العاقل - نظر تأمل وتدبر واعتبار فى أحوال الناس ، لترى عن طريق المشاهدة كيف فضل الله - تعالى - بعض الناس على بعض فى هذه الحياة ، فهذا غنى وذاك فقير ، وهذا قوى وذاك ضعيف ، وهذا ذكى وذاك خامل ، وهذا مالك وذاك مملوك .
إلى غير ذلك من الأحوال التى تدل على تفاوت الناس فى هذه الدنيا ، على حسب ما تقتضيه إرادة الله - تعالى - وحكمته ، ومشيئته .
أما فى الآخرة فالناس فيها أكبر تفاضلا وتفاوتا فى الدرجات والمنازل ، مما كانوا عليه فى الدنيا .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : وقوله : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أى : ولتفاوتهم فى الدار الآخرة أكبر من الدنيا ، فإن منهم من يكون فى الدركات فى جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون فى الدرجات العلا ونعيمها وسرورها . ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . وفى الصحيحين : " إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر فى أفق السماء " .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا سنة من سنن الله - تعالى - فى إهلاك الأمم ، وأنه - تعالى - ما أهلكها إلا بعد أن عتت عن أمره ، وعصت رسله ، كما أنها بينت لنا سوء عاقبة الذين يؤثرون متع الدنيا على طاعة الله - تعالى - ، وحسن عاقبة الذين يريدون الآخرة وما فيها من ثواب جزيل ، وأن الفريقين لا ينالون مما يطلبونه إلا ما قدره الله - تعالى - لهم ، وأن عطاءه للناس جميعا لا ينقص مما عنده شيئا ، وأن حكمته - سبحانه - قد اقتضت تفضيل بعض الناس على بعض فى الدنيا والآخرة ، وصدق - عز وجل - حيث يقول : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : بعد أن بين - سبحانه - أن الناس فريقان : فريق يريد بعمله الدنيا فقط ، وفريق يريد بعمله طاعة الله ، ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة : أولها : إرادة الآخرة ، وثانيها : أن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة ، وثالثها : أن يكون مؤمنا .
لا جرم فصل فى هذه الآيات تلك المجملات : فبدأ أولا بشرح حقيقة الإِيمان . . . ثم ذكر عقبيه سائر الأعمال . . . .
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم ، ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة . فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول . كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة ?
( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) .
فمن شاء التفاوت الحق ، ومن شاء التفاضل الضخم ، فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة ، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
ثم قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } في الدنيا ، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك ، والحسن والقبيح وبين ذلك ، ومن يموت صغيرًا ، ومن يعمر حتى يبقى شيخًا كبيرًا ، وبين ذلك { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } أي : ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ؛ فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العُلَى ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . وفي الصحيحين : " إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " {[17379]} ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } ]{[17380]} .
لما كان العطاء المبذول للفريقين هو عطاء الدنيا وكان الناس مفضلين فيه على وجه يدركون حكمته لفت الله لذلك نظر نبيه عليه الصلاة والسلام لَفْتَ اعتبار وتدبر ، ثم ذَكَّرَهُ بأن عطاء الآخرة أعظم عطاء ، وقد فضل الله به المؤمنين .
والأمر بالنظر موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ترفيعاً في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره .
والنظر حقيقته توجه آلة الحس البَصري إلى المبصر . وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما ، فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار ، ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن ، وهو هنا كذلك . وفد تقدم نظيره في قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في [ النساء : 50 ] .
( و ( كيف ] اسم استفهام مستعمل في التنبيه ، وهو معلّق فعلَ ( انظر ) عن العمل في المفعولين . والمراد التفضيل في عطاء الدنيا ، لأنه الذي يدركه التأمل والنظر وبقرينة مقابلته بقوله : { وللآخرة أكبر درجات } .
والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال ؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد ، وقد يفضل المسلم فيه الكافر ، ويفضل الكافر المسلم ، ويفضل بعض المسلمين بعضاً ، وبعض الكفرة بعضاً ، وكفاك بذلك هادياً إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة .
ونصب { درجات } و { تفضيلاً } على التمييز لنسبة { أكبر } في الموضعين ، والمفضل عليه هو عطاء الدنيا .
والدرجات مستعارة لعظمة الشرف ، والتفضيل : إعطاء الفضل ، وهو الجدة والنعمة ، وفي الحديث : « ويتصدقون بفضول أموالهم » والمعنى : النعمة في الآخرة أعظم من نعم الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.