واستمع إلى السورة الكريمة وهى تصور هذه المعانى وغيرها بأسلوبها الحكيم فتقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ . . . . } .
هذه هى الآيات التي جاءت في السورة الكريمة بعد حديثها المتنوع عن بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وقبل حديثها المستفيض - الذي سنراه بعد قليل عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل .
وقد بدئت بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } البأساء : الشدة والمشقة كلاحرب والجدب وشدة الفقر . والضراء : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته كالمرض والمصائب .
والمعنى : ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد شأن الرسل السابقين مع أقوامهم الهالكين لهم ألوانا من الشدائد والمصائب لعلهم ينقادون لأمر الله ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويكثرون من التضرع إليه والاستجابة لهديه .
فالآية الكريمة إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم ، إثر بيان أحوال الأمم التي سبق الحديث عنها وهى أمة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليه السلام - .
والمقصود منها التحذير والتخويف لكفار قريش وغيرهم ، لينزجروا عن الضلال والعناد ، ويستجيبوا لله ولرسوله .
وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين بعث إليهم ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام .
وقوله : { مِّن نَّبِيٍّ } فيه حذف وإضمار والتقدير : من نبى كذبه قومه أو أهل القرية لأن قوله : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } لا يترتب على الإرسال ، وإنما يترتب على التكذيب والعصيان . و { مِّن } لتأكيد النفى .
والاستثناء في قوله : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } مفرغ من أعم الأحوال ، و { أَخَذْنَا } في موضع نصب على الحال من فاعل { أَرْسَلْنَا } أى : وما أرسلنا - في قرية من القرى المهلكة بسبب ذنوبها - نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء . قبل إنزال العقوبة المستأصلة لهم .
وجملة { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } تعليلية . أى : فعلنا ما فعلنا لكى يتضرعوا ويتذللوا ويتوبوا من ذنوبهم .
فما يأخذ الله به الغافلين من الشدائد والمحن ليس من أجل التسلية والتشفى - تعالى الله عن ذلك - وإنما من أجل أن ترق القلوب الجامدة ، وتتعظ المشاعر الخامدة ، ويتجه البشر الضعاف إلى خالقهم ، يتضرعون إليه ويستغفرونه ، عما فرط منهم من خطايا .
هذا الجزء - التاسع - يتألف من شطرين : الشطر الأول هو بقية " سورة الأعراف " - من القرآن المكي - وهو يؤلف ثلاثة أرباع هذا الجزء . . والشطر الثاني هو نصف الحزب الأول من سورة الأنفال - من القرآن المدني - وهو يؤلف الربع الباقي من الجزء . .
وسنكتفي هنا بالعرض الإجمالي للشطر الأول . ونرجىء الشطر الثاني إلى موضعه . حيث نقدم - إن شاء الله - سورة الانفال ؛ وفق المنهج الذي اتبعناه في التعريف بسور القرآن . .
مضى في الجزء الثامن - في الشطر الذي استعرضناه هناك من سورة الأعراف - قصص الرسل والرسالات والأقوام بعد آدم عليه السلام . وعرضنا من موكب الإيمان هناك قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - ومصارع المكذبين من أقوامهم ونجاة المؤمنين .
فالآن يبدأ هذا الجزء بتكملة لقصة شعيب - عليه السلام - وقد اخترنا أن نضمها إلى نهاية الجزء الثامن تكملة للقصة هناك . .
ثم يقف سياق السورة وقفة للتعقيب على ذلك القصص - وفق منهج السورة - فيكشف في هذا التعقيب عن خطوات قدر الله بالمكذبين . . كيف يأخذهم بالبأساء والضراء لعل قلوبهم تصحو وترق ، وتلجأ إلى الله وتتضرع إليه ، فإذا لم تستيقظ هذه القلوب ولم تتفتح ولم تنتفع بالابتلاء ، أخذهم الله بالسراء - وهي أشد في الابتلاء - حتى يزدادوا عن قدر الله غفلة ، ويظنوا الحياة لهواً ولعباً . وعندئذ يأخذهم الله بغتة على حين غفلة : ( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عَفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ! فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) . .
وهنا يكشف السياق كذلك عن العلاقة بين القيم الإيمانية وسنن الله في أخذ الناس ، حيث لا انفصال في خطوات قدر الله بين هذه السنن وتلك القيم . هذه العلاقة التي تخفى على الغافلين ، لأن آثارها قد لا تبدو في المدى القريب ؛ ولكنها لا بد واقعة في المدى الطويل : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . .
ويعقب الكشف عن خطوات قدر الله بالمكذبين ؛ وسنته وعلاقتها بالقيم الإيمانية في حياة البشر ؛ لمسات من التهديد تهز القلوب ؛ ولفتات إلى مصارع المكذبين توقظ الغافلين : ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟ أفأمنوا مكر الله ؟ فلا يأمنمكر الله إلا القوم الخاسرون ) ( أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لونشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) . .
وينتهي هذا التعقيب بلفتة إلى رسول الله [ ص ] عن هذا القصص ؛ وتلخيص لأمر الأقوام التي كذبت من قبل ؛ ووصف لحقيقة حالهم ونسيانهم لعهد الله معهم على الاعتراف بألوهيته ووحدانيته ؛ وعدم جدوى الآيات والبينات والخوارق التي جاءهم بها رسلهم ، بسبب تعطل فطرتهم وغفلة قلوبهم : ( تلك القرى نقص عليك من أنبائها . ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
وبعد هذه الوقفة للتعقيب على مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب . . تجيء قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه أولاً ؛ ثم مع قومه بني إسرائيل أخيراً . . وتشغل قصة موسى في هذه السورة أوسع مساحة وأكبر قدر شغلته في سورة واحدة من سور القرآن كلها . . وقد وردت حلقات من قصة بني إسرائيل في مواضع كثيرة ؛ وذلك عدا الإشارات القصيرة إليها في مواضع من القرآن أخرى . . وكانت أكثر القصص وروداً في القرآن كله . . ولعل ذلك التفصيل في قصة هذه الأمة كان للحكمة التي أشرنا إليها من قبل - في هذه الظلال - في الجزء السادس في صفحتي 868 - 869 على النحو التالي :
" من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حرباً على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول . هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة ؛ وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم ؛ كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة . . فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة ، لتعرف من هم أعداؤها : ماطبيعتهم ؟ وما تاريخهم ؟ وما وسائلهم ؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟
" ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ؛ كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله . فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفاً ؛ ووسائلهم كلها مكشوفة .
" ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير . وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة ؛ ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ؛ ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف ، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم . . فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم ، وتقلبات هذا التاريخ ؛ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ، ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة - في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها ؛ وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون . ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق ، ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدى التجارب الأولى .
" ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل . وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها ، وتنحرف أجيال منها ؛ وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ، ستصادفها فترات تمثل فترات من حياة بني إسرائيل ؛ فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتهاومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة ، نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم ؛ يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت ! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة ، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها ، وينفض عنها الركام ، لجدته عليها ، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة . فأما القلوب التي نوديت من قبل ، فالنداء الثاني لا تكون له جدته . ولا تكون له هزته ؛ ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته ؛ ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف ، وإلى الصبر الطويل ! " . .
وقد وردت حلقات من قصة موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من قبل في هذه الظلال - المرتبة وفق ترتيب السور في المصحف لا وفق ترتيب النزول - في سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة النساء ، وسورة المائدة ، وسورة الأنعام . . ولكن إذا اعتبرنا ترتيب النزول ، فإن هذه الحلقات الواردة منها هنا في سورة الأعراف المكية تكون سابقة على ما ورد منها في السور المدنية . وذلك ظاهر من طبيعة عرضها هنا وطبيعة عرضها هناك . فهي هنا تعرض على طريقة الحكاية والقصص . وهناك تعرض على سبيل مواجهة بني إسرائيل بها ، وتذكيرهم بأحداثها ووقائعها ومواقفهم فيها .
ولقد وردت القصة في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن كله - مكية ومدنيه - ولكن ورودها مفصلة اقتصر على عشرة مواضع في عشر سور منها ستة مواضع هي أكثرها تفصيلاً . والذي ورد منها في سورة الأعراف كان أول تفصيل . . كما أنه هو أوسع مساحة . وإن تكن الحلقات التي وردت في هذه المساحة أقل مما ورد منها في سورة طه .
وهي تبدأ هنا من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة . بينما تبدأ في سورة طه من حلقة النداء لموسى - عليه السلام - في جانب الطور . وتبدأ في سورة القصص من حلقة مولد موسى في فترة اضطهاد بني إسرائيل . . ويبدأ عرضها - متناسقاً مع جو السورة وأهدافها على طريقة القرآن في سياقة القصص كله - بالتوجيه إلى عاقبة تكذيب فرعون وملئه . وذلك منذ اللحظة الأولى في عرضها : ( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فظلموا بها . فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) .
ثم تمضي حلقات القصة ومشاهدها . . أولاً . . في مواجهة فرعون وملئه . . وأخيراُ في مواجهة بني إسرائيل ، والتوائهم وزيغهم وانحرافهم !
ولما كنا سنستعرض القصة - فيما بعد - بالتفصيل . فإننا نكتفي هنا بالوقوف أمام معالمها البارزة وموحياتها الكلية :
إن موسى - عليه السلام - يواجه فرعون وملأه بأنه رسول من رب العالمين : وقال موسى : يا فرعون إني رسول من رب العالمين . حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . . كذلك حين تقع المباراة بينه وبين سحرة فرعون فيغلبون ويؤمنون ، فإنهم يؤمنون برب العالمي ( وألقي السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون . . وحين يهددهم فرعون بالعذاب الرعيب : فإنهم يتجهون إلى ربهم ، ويعلنون أنهم عائدون إليه في حياتهم ومماتهم وبعثهم وفي أمرهم كله : قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون . تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين . .
ثم إن موسى - عليه السلام - وهو يعلم قومه في مواضع كثيرة يعرفهم بربهم الحق . . فعندما أعلن فرعون أنه سيعيد اضطهاد بني إسرائيل بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم قال( موسى لقومه استعينوا باللّه واصبروا ، إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) . . . ( قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا . قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) . . وعندما جاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وطلبوا إلى موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهؤلاء القوم آلهة ! ( قال : إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ؟ ) . .
فهذه النصوص القرآنية في القصة تثبت حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليه السلام ؛ وحقيقة التصور الاعتقادي الذي تنشئه هذه الحقيقة . . وهو التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام ؛ وتضمنه دين الله في جميع الرسالات . كما أنها تثبت زيف النظريات والتكهنات التي يدلي بها الباحثون في تاريخ الأديان من الغربيين ومن يأخذ بمنهجهم وتقريراتهم ممن يكتبون عن تطور العقيدة !
كذلك تثبت هذه النصوص ألوان الانحراف التي صاحبت تاريخ بني إسرائيل وجبلتهم الملتوية - حتى بعد بعثة موسى عليه السلام . ذلك من مثل قولهم : ( يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) . . ومثل اتخاذهم العجل في غيبة موسى على الجبل لميقاته مع ربه ! ومثل طلبهم رؤية الله جهرة وإلا فإنهم لا يؤمنون ! ولكن هذه الانحرافات لا تمثل حقيقة العقيدة التي جاء بها موسى من ربه . إنما هي انحرافات عن هذه العقيدة . فكيف تحسب الانحرافات إذن على العقيدة ذاتها ؟ ويقال : إنها " تطورت " إلى التوحيد ؟ !
كذلك تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله وبين الجاهلية كلها . وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين ؛ وكيف يحس فيه الخطر على وجوده ؛ كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت !
إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون : يا فرعون إني رسول من رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق ، . . . قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . . تبين مدلول هذه الدعوة إلى ( رب العالمين ) . . إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين ! وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل . فإنه إذ كان الله رب العالمين ، فما يكون لعبد من عبيده - وهو فرعون المتجبر الطاغي - أن يعبدهم لنفسه . فهم ليسوا عبيداً إلا لرب العالمين . . إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له . فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس - وهم من العالمين - وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده . فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده ؛ والا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية . . أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية . . وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره . لا يحكمهم بشرعه .
ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى ( رب العالمين ) . وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون - وسلطانهم المستمد منه - فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم : ( قال الملأ من قوم فرعون : إنّ هذا لساحر عليم . يريد أن يخرجكم من أرضكم . فماذا تأمرون ؟ ) . . ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ ) . . وما أرادوا إلا أن هذه الدعوة إلى ربالعالمين لا تحمل إلا مدلولاً واحداً هو انتزاع السلطان من يد العبيد - الطواغيت - ورده إلى صاحبه - سبحانه - وهذا معناه - من وجهة نظرهم - الإفساد في الأرض ! أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية لمثل هذه الدعوة بذاتها : إنها محاولة لقلب نظام الحكم ! ومن وجهة نظر الطواغيت الجاهلية التي تغتصب سلطان الله - أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان - يكون هذا " قلباً " لنظام الحكم . لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد لبقية العبيد . بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد ! وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين ؛ وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان : إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم . وهددهم بأبشع العذاب والنكال : قال فرعون : آمنتم به قبل أن آذن لكم ! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلبنكم أجمعين . .
ومن الجانب الآخر كان هؤلاء السحرة الذين آمنوا برب العالمين ؛ وأسلموا لله وحده ؛ وأعلنوا الخروج من العبودية الزائفة للطاغوت المغتصب للربوبية واختصاصاتها . . كانوا يعلمون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت . إنها المعركة على العقيدة . لأن هذه العقيدة تهدد سلطان الطواغيت بمجرد إعلان أصحابها أن عبوديتهم خالصة لرب العالمين . بل بمجرد إعلان أن الله رب العالمين ! ومن ثم قالوا لفرعون رداُ على اتهامه لهم بأن هذا مكر مكروه في المدينة ليخرجوا منها أهلها - وهو مرادف للاتهام في الجاهليات الحديثة لكل من يعلن ربوبية الله للعالمين بمعناها الجاد بأنه يعمل على قلب نظام الحكم ! - : ( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) . . ثم لجأوا إلى ربهم الذي آمنوا به فتمردوا على العبودية لغيره قائلين : ( ربنا أفرغ علينا صبراُ وتوفنا مسلمين ) . . فكان هذا فرقاناُ جعله الله في قلوبهم حين استقرت حقيقة الإسلام لله فيها .
ومن خلال عرض الآيات التي جاء بها موسى لفرعون وملئه ؛ وما أخذهم الله به من السنين ونقص الثمرات ، وما أرسله عليهم من الآفات . ومواجهتهم لهذا كله بالعناد والمراوغة والإصرار في النهاية على ما هم فيه حتى أهلكهم الله كما يقول تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه - ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون - وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ، فاستكبروا وكانوا قوماُ مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك . لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . . من خلال عرض هذا كله يتبين مدى إصرار الطاغوت على الباطل في وجه الحق . ومدى مقاومته للدعوة إلى ( رب العالمين ) . . ذلك أنه يعلم علم اليقين أن هذه الدعوة بذاتها هي حرب عليه ، بإنكار شرعية قيامه من أساسه ! وما يمكن أن يسمح الطاغوت بإعلان أن لا إله إلا الله . أو أن الله هو رب العالمين . إلا حين تفقد هذه الكلمات مدلولها الحقيقي ، وتصبح مجرد كلمات لا مدلول لها . . وهي في مثل هذه الحالة لا تؤذيه ! لأنها لا تعنيه ! فأما حين تأخذ عصبة من الناس هذه الكلمات جداً بمدلولها الحقيقي ، فإن الطاغوت الذي يزاول الربوبية - بمزاولته للحاكمية بغير شرع الله ، وتعبيد الناس له بهذه الحاكمية وعدم إرسالهم لله - لا يطيق هذه العصبة . كما لم يطق فرعون دعوة موسى إلى رب العالمين ، وإعلان السحرة المؤمنين أنهم آمنوا برب العالمين . وكما ظل هو والملأ من قومه مصرين على رد هذه الدعوة ، والآيات تتوالى عليهم ، والنكبات كذلك تتوالى عليهم من الجدب والآفات والجوع والبلاء . . ولكن هذا كله كان عندهم أيسر وأهون من التسليم بربوبية الله للعالمين . لما تحويه من مدلول صريح بعزلهم هم عن مزاولة هذا السلطان المغتصب ، الذي يعبدون به الناس لغير رب العالمين !
كذلك تتجلى من خلال عرض هذه الآيات خطوات قدر الله بالمكذبين . . من أخذهم بالبأساء والضراء . ثم أخذهم بالرخاء والسراء . ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية المطاف ! والتمكين للمؤمنين الذين كانوا يستضعفون : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون ) . .
ولكن بني إسرائيل غلبت عليهم جبلتهم الملتوية الخبيثة . ففسقوا عن أمر الله - كما يجلو السياق القرآني ذلك - وراوغوا موسى نبيهم وزعيمهم ومنقذهم مراوغة مؤذية ؛ وعصوا وبطروا النعمة ولم يستقيموا ولم يشكروا ؛ وتكرر منهم ذلك كله بعد مغفرة الله لهم وقبولهم مرة بعد مرة ، إلى أن حقت عليهم كلمة الله في النهاية : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . إن ربك لسريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم ) . .
ولقد صدق وعيد الله . . ولا بد أن يصدق في مقبل الأيام . . وإنما هي دورات لهم في التاريخ . حتى إذا عتوا وأفسدوا وتجبروا واشتد أذاهم ، بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة !
وأخيراً فإن هذه السورة مكية . وقد ورد فيها عن التواء بني إسرائيل ومعصيتهم وسوء جبلتهم الكثير . . بينما يزعم المستشرقون - اليهود والصليبيون سواء - أن محمداً [ ص ] لم يهاجم اليهود - بزعمهم - بهذا القرآن إلا بعد أن يئس في المدينة من استجابتهم له . وأنه كان يحاسنهم في مكة ، وفي أول عهده بالمدينة . فيقول - بزعمهم - قرآناً لا يهاجمهم فيه ؛ إنما يحدثهم عن التقاء العرب بهم في النسب إلى جدهم إبراهيم ! طمعاً في إسلامهم له ! فلما يئس منهم هاجمهم هذا الهجوم . . وكذبوا . فهذه سورة مكية تصف الحق في شأنهم ، لا فرق بين ما جاء فيها وما جاء في سورة البقرة المدنية في هذا الحق الذي لا يتبدل . . وإذا نحن تجاوزنا عن الآيات من 163 إلى 170 في هذه السورة بوصفها مدنية ، وهي التي ورد فيها تأذن الله - سبحانه - بأن يرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، فإن الآيات التي قبلها والتي بعدها والتي لا شك في أنها مكية تضمنت الحق في جبلة بني إسرائيل . وفيها ذكر عبادتهم للعجل . . وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهاً صنماً بينما هم خارجون من مصر باسم الله الواحد ! وأخذ الرجفة لهم لأنهم أبوا الإيمان إلا أن يروا الله جهرة . وتبديلهم قول الله لهم وهم يدخلون القرية . . الخ مما يدمغ أولئك الزاعمين من المستشرقين بالافتراء على التاريخ بعد الافتراء على الله ورسوله . . وهؤلاء هم الذين يتخذهم بعض من يكتبون عن الإسلام أساتذة لهم فيما يكتبون !
وحسبنا هذه المعالم في القصة حتى نواجه نصوصها بالتفصيل .
وإذا كانت القصة بطولها مسوقة في هذه السورة - في استعراض موكب الإيمان - لتدل على خطوات قدر الله مع المكذبين ، ولتصور العلاقة بين القيم الإيمانية وسنة الله في الحياة البشرية ، فإنها مسوقة كذلك لبيان طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ؛ ممثلتين في شخوص القصة وأطرافها . وقد ختمت بمشهد أخذ الميثاق على بني إسرائيل ، تحت المعاينة الكاملة لبأس الله الشديد : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وظنوا أنه واقع بهم ، خذوا ما آتيناكم بقوة ، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) . .
لذلك أعقب هذا المشهد مشهد أخذ الميثاق على فطرة البشر كافة : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ! شهدنا . . أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ ) . .
وأعقب هذا المشهد مشهد الذي ينسلخ من هذا العهد ، كما ينسلخ من العلم بآيات الله بعد إذ أراه إياها . . وهو مشهد مثير . . وفيه لمسات قوية للتنفير من هذا الانسلاخ ، والتحذير من مآله المنظور : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ، فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض ، واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا . فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا ، وأنفسهم كانوا يظلمون ) . .
ثم بيان لطبيعة الهدى وطبيعة الكفر . يكشف عن أن الكفر تعطلٌ في أجهزة الفطرة يحول دون تلقي هدى الله ، وينتهي بالخسارة المطلقة : ( من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون . ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون ) . .
تعقب هذا البيان لفتة إلى المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام في مكة بالتكذيب ، ويلحدون في أسماء الله فيشتقون منها أسماء الآلهة المفتراة . وتهديد لهم باستدراج الله . ودعوة لهم كذلك أن يتفكروا تفكراً عميقاً بعيداً عن الهوى في أمر صاحبهم الذي يدعوهم إلى الهدى [ ص ] فينبزونه بأن به جنة ! وإلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما في صفحات الوجود من موحيات الهدى ؛ ولمسة لهم بالموت الذي يترقبهم وهم عنه غافلون : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه . سيجزون ما كانوا يعملون . وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . . وأملي لهم إن كيدي متين . . أولم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة . إن هو إلا نذير مبين . أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من شيء ، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ من يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يعمهون . .
ومواجهة كذلك لهؤلاء المشركين في تكذيبهم بالساعة ، وسؤالهم عن موعدها . . مواجهة بضخامة هذا الشأن الذي يسألون عنه مستهينين ، وهول هذا الأمر الذي يتناولونه مستخفين . وجلاء كذلك لطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ وتقرير لحقيقة الألوهية وتفرد الله سبحانه بكل خصائصها . ومنها علم الغيب ؛ وتجلية الساعة ؛ ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفيٌّ عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون )
وفي سياق مواجهة المشركين يجيء بيان عن طبيعة الشرك وقصة الانحراف عن عهد الفطرة بتوحيد الله ، وكيف يقع في النفس هذا الانحراف . . وكأنما هو تصوير لانحراف جيل المشركين بعد أن كان أسلافهم الأولون على دين إبراهيم الحنيف : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به . فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلماآتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون . أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ ) . . إنه تمثيل للأجيال المتلاحقة بصورة الحالات المتتابعة في النفس الواحدة . . وهو تصوير ذو دلالات عجيبة في صدقها وفي جمالها جميعاً . .
ولأن المقصود هو تمثيل حالة المشركين الذين كان هذا القرآن يواجههم فإن السياق ينتقل مباشرة من المثل إلى مخاطبتهم مواجهة ، ويوجه الرسول [ ص ] إلى تحديهم هم وآلهتهم : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا . وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون . .
وفي نهاية السورة يتجه الخطاب إلى رسول الله [ ص ] وإلى الأمة المسلمة . يوجهه إلى اليسر في أخذ الناس في هذه الدعوة ؛ ونهنهة النفس عن الغضب مما يبدر منهم من تقاعس واعتراض ؛ والاستعاذة من الشيطان الذي يثير الغضب ويحنق الصدر : خذ العفو . وأمر بالعرف ؛ وأعرض عن الجاهلين . وإما ينزعنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها ! قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . .
وهذا التوجيه يذكرنا بما ورد في مطلع السورة : ( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . . فهو يشي بثقل هذا العبء - عبء دعوة الناس ، ومواجهة ما في نفوسهم من رواسب وركام وعقابيل ، والتواءات وأغراض وشهوات ، وغفلة وثقلة وتقاعس . . وضرورة الصبر . . وضرورة اليسر . . وضرورة السير أيضاً في الطريق !
ثم توجيه إلى الزاد المعين على مشاق الطريق . . الاستماع والإنصات إلى القرآن . . وذكر الله في كل آن وفي كل حال . والحذر من الغفلة . والاقتداء بالمقربين من الملائكة في الذكر والعبادة : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ، ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ، ولا تكن من الغافلين . إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . .
إنه زاد الطريق . وأدب العبادة . ومنهج المقربين الموصولين . .
وحسبنا هذه الإشارات المجملة لنواجه النصوص بالتفصيل . .
( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء . فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون . ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . .
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة ، إنما يكشف عن سنة . ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر . . ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور ؛ وتتم وفقه الأحداث ؛ ويتحرك به تاريخ " الإنسان " في هذه الأرض . وأن الرسالة ذاتها - على عظم قدرها - هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس - وهو أكبر من الرسالة وأشمل - وأن الأمور لا تمضي جزافا ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض - كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان ! - وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير ، ويصدر عن حكمة ، ويتجه إلى غاية . وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة ؛ التي وضعت السنة ، وارتضت الناموس . . ووفقاُ لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان ، مما حكاه السياق . ويكون من أمر غيرها ما يكون !
إن إرادة الإنسان وحركته - في التصور الإسلامي - عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضا . ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل . . . والله بكل شىء محيط . . وإرادة الإنسان وحركته - في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل - يتعاملان مع الوجود كله ، ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضا . . فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني ؛ وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة ؛ مما يبدو إلى جانبه " التفسير الاقتصادي للتاريخ " و " التفسير البيولوجي للتاريخ " ، و " التفسير الجغرافي للتاريخ " . . . بقعا صغيرة في الرقعة الكبيرة . وعبثا صغيرا من عبث الإنسان الصغير !
( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ) . .
فليس للعبث - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم . وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة - كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة ! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء ، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى ، وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية ؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار ؛ يتضرعون إليه ؛ ويطلبون رحمته وعفوه ؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له -والعبودية لله غاية الوجود الإنساني - وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )
ولو اجتمع الإنس والجن - على قلب رجل واحد - على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً . ولو اجتمع الإنس والجن - على قلب رجل واحد - على معصيته - سبحانه - ما نقصوا في ملكه شيئاً [ كما جاء في الحديث القدسي ] . . ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم ؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك . . فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه . . تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم - كما جاء في أوائل السورة - وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم . وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم ؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان ؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون ، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم ، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد !
لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه ، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم ، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم ، استحياء لقلوبهم بالألم . والألم خير مهذب ، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة ، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية ، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق . . ( لعلهم يضرعون ) . .
هذه الآية خبر من الله عز وجل أنه ما بعث نبياً في مدينة وهي «القرية » إلا أخذ أهلها المكذبين له { بالباساء } وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن ، { الضراء } وهي المصاب في البدن كالأمراض ونحوها ، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة ، وحكي عن السدي ما يقتضي أن اللفظتين تتداخلان فتقال كل واحدة على المعنيين ، و[ لعلهم ] ترجّ بحسب اعتقاد البشر وظنونهم ، و[ يضرعون ] أي ينقادون إلى الإيمان ، وهكذا قولهم الحمى أضرعتني لك .
عطفت الواو جملة { ما أرسلنا } على جملة { وإلى مدين أخاهم شعيباً } [ الأعراف : 85 ] ، عطف الأعم على الأخص . لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] كله ، القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفّار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل ، أو قياس الاستقراء الناقص ، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية ، وهذه الجمل إلى قوله : { ثم بعثنا من بعدهم موسى } [ يونس : 75 ] كالمعترضة بين القَصَص ، للتنبيه على موقع الموعظة ، وذلك هو المقصود من تلك القصص ، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام .
وعُدّيَ { أرسلنا } ب ( في ) دون ( إلى ) لأن المراد بالقرية حقيقتها ، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلاّ أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى : { وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً } [ القصص : 59 ] ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريباً : { وأرسل في المدائن حاشرين } [ الأعراف : 111 ] إذ لا داعي إليه هنا .
و { منْ } مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن ، وشهد به تاريخ الأديان ، ينبىء أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة ، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الإنحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة ، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبياً في بني عبس ، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة ، وقد قيل : إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضاً ( فتح ) بالمهملة أو ( فتَخ ) بالمعجمة أو ( فيْج ) بتحتية وجيم ، أو فلْج ( بلام وجيم ) من اليمامة .
والاستثناء مفرغ من أحوال ، أي ما أرسلنا نبيّاً في قرية في حال من الأحوال إلاّ في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء ، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله : { لعلهم يضرّعون } فإنه يدل على أنهم لم يضرّعُوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد الخ . . .
والأخذ : هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه ، وهو معنى الغلبة ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخدناهم بالبأساء والضراء } في سورة الأنعام ( 42 ) .
وقوله : { بالبأساء والضراء لعلهم يضرّعون } تقدم ما يُفسّرها في قوله : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون } في سورة الأنعام ( 42 ) . ويُفسر بعضها أيضاً في قوله : { والصابرين في البأساء والضراء } في سورة البقرة ( 177 ) .
واستغنت جملة الحال الماضوية على الواو و ( قد ) بحرف الاستثناء ، فلا يجتمع مع ( قد ) إلاَّ نادراً ، أي : ابتدأناهم بالتخويف والمصائب لتَفُل من حدتهم وتصرف تأملهم إلى تطلب أسباب المصائب فيعلموا أنها من غضب الله عليهم فيتوبوا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أرسلنا في قرية من نبي} فكذبوه، {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء}، يعني قحط المطر، فأصابهم البؤس، وهو الشدة، والضر يعني البلاء، {لعلهم}، يعني لكي، {يضرعون} إلى ربهم فيوحدونه فيرحمهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم معرّفه سنته في الأمم التي قد خلت من قبل أمته، ومذكّرَ من كفر به من قريش لينزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك بالله والتكذيب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَما أرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ" قبلك، "إلاّ أخَذْنا أهْلَها بالبَأْساءِ والضّراءِ "وهو البؤس وشظف المعيشة وضيقها، والضرّاء: وهي الضر وسوء الحال في أسباب دنياهم.
"لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ": يقول: فعلنا ذلك ليتضرّعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في الآية إضمار -واللَّه أعلم- من وجهين:
أحدهما: قوله: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها المكذبين له بالبأساء، وما ذكر، وإلا لا يحتمل أن يرسل إليهم رسولًا ثم يأخذهم بما ذكر من غير أن كان منهم رد وتكذيب له.
والثاني: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ) أهلكناها (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا) وقبل الهلاك (بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ثم لم يأخذ اللَّه قومًا بالهلاك قبل أن يبعث رسولًا إليهم، وقبل: أن يغتروا هم ما أنعم عليهم بأنفسهم؛ كقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا...) الآية؛ وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقال: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، وغير ذلك من الآيات، أخبر أنه لا يأخذهم بالعذاب والهلاك إلا بعد قطع العذر لهم من جميع الوجوه، وإن كان له الإهلاك قبل أن يبعث إليهم الرسول لما ركب فيهم من العقول السليمة مما بها يوصل إلى فهم كل ما جعل فيهم من آثار وحدانيته وآيات ربوبيته، وما جعل لهم من السمع والنطق ما به يوصل إلى سمع كل ما غاب والنطق بكل ما يريدون، ما لم يجعل ذلك لغيرهم من البهائم، وما أنعم عليهم من تصوير الصور ما لم يتمن أحد تحويله منها إلى غيرها من الصور، لكنه لا يهلكهم إلا بعد بعث الرسل إليهم لما أن الخلق على مراتب؛ منهم من يفهم بالعقل لا يحتاج إلى معونة السمع، وهم الحكماء والعلماء الذين يدركون الأشياء بالبديهة، ومنهم من لا يدرك إلا بمعونة السمع وهم كالصبيان، إنهم لا يدركون إلا بالسمع وفضل التنبيه، ومنهم من لا يدرك بالعقل ذلك ولا بالسمع حتى تصيبهم الشدائد والعبر في أنفسهم وفيما أنعم عليهم، وهم كالبهائم الذين لا عقل لهم ولا سمع، ولكن يعرفون الشدائد وما يصيبهم من البلاء، فعلى ذلك يمتحنهم عَزَّ وَجَلَّ، ويبتليهم بالشدائد والبلايا أولًا، فإن رجعوا عن ذلك وعرفوا نعمه، وإلا أهلكهم بعد ذلك فعند ذلك ينتهون ويتذكرون، وذلك قوله، (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن البأساء: القحط. والضراء: الأمراض والشدائد، قاله الحسن. والثاني: أن البأساء الجوع. والضراء: الفقر، قاله ابن عباس. والثالث: أن البأساء: البلاء. والضراء الزمانة. والرابع: أن البأساء: ما نالهم من الشدة في أنفسهم. والضراء: ما نالهم في أموالهم، حكاه عليّ بن عيسى. ويحتمل قولاً خامساً: أن البأساء الحروب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يرسل رسولا إلى أهل قرية إلا وأخذ أهلها بالبأساء والضراء تغليظا في المحنة وتشديدا للتكليف ليلين قلوبهم، ولكي يتضرعوا إلى ربهم في كشف ما نزل بهم في ذلك، وانما يفعل بهم ذلك لعلمه بما لهم فيه من الصلاح لكي يتضرعوا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حرَّكهم بالبلاء الأَهْوَنِ تحذيراً من البلاء الأصعب، فإذا تمادوا في غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم مَدَّ عليهم ظلالَ الاستدراجِ، ووسّعَ عليهم أسبابَ التفرقة مكراً بهم في الحال، فإذا وَطَّنُوا -على مساعدة الدنيا- قلوبهم، وركنوا إلى ما سوَّلت لهم من امتدادها، أبرز لهم من مكامن التقدير ما نَغَّصَ عليهم طيبَ الحياة، واندق بغتةً عُنُقُ السرور، وشَرِقُوا بما كانوا ينهلون من كاسات المُنَى، فتبدّل ضياءُ نهارهم بِسُدفَةِ الوحشة، وتكدّر صافي مشربهم بيد النوائب، كما سبقت به القسمة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء} بالبؤس والفقر {والضراء} بالضرّ والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه.
{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و [لعلهم] ترجّ بحسب اعتقاد البشر وظنونهم، و [يضرعون] أي ينقادون إلى الإيمان.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
ومقصود الآية: إعلام النبي بسنة الله في المكذبين، وتهديد قريش.
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء، وأحوال ما جرى على أممهم، كان من الجائز أن يظن أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال، إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط، فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم، وبين العلة التي بها يفعل ذلك: قال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة، لأنها مجتمع الأقوام. وقوله: {من نبي} فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذب أو كذبه أهلها، إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم، والضراء ما نالهم من الأمراض. وقيل على العكس، ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا، معناه: يتضرعوا، والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
من سنة القرآن الحكيم أنه يبين العقائد بدلائلها، والأحكام مؤيدة بحكمها وعللها، والقصص مقرونة بوجوه العبرة والموعظة بها وسنن الاجتماع فيها، كما ترى في هذه الآيات التسع التي قفى بها على قصص القوم المهلكين.وما أرسلنا نبيا في قوم إلا وقد أنزلنا بهم الشدائد والمصائب بعد إرساله أو قبيله لنعدّهم ونؤهلهم بها للتضرع وهو إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع لنا، والإخلاص في دعائنا بكشفها، فلعل تفيد الإعداد للشيء وجعله مرجواً. ومما ثبت بالتجارب وتقرر عند علماء النفس والأخلاق أن الشدائد وملاحج الأمور مما يربي الناس ويصلح من فسادهم، فالمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه، والشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها بفقدها، فينقلب شاكرا بعد عودها، بل الكافر بالله عز وجل قد تنبه الشدائد والأهوال مركز الشعور بوجود الرب الخالق المدبر لأمور الخلق في دماغه، وتذكره بما أودع في فطرته من وجود مصدر لنظام الكون وأقداره، كما وقع كثيرا.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
أي إن سنتنا قد جرت ولا مبدل لها: أننا إذا أرسلنا نبيا في قوم وكذبوه أنزلنا بهم الشدائد والمصائب لنعدهم ونؤهلهم للتضرع والإخلاص في دعائنا بكشفها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية...إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور؛ وتتم وفقه الأحداث؛ ويتحرك به تاريخ "الإنسان "في هذه الأرض. وأن الرسالة ذاتها -على عظم قدرها- هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس -وهو أكبر من الرسالة وأشمل- وأن الأمور لا تمضي جزافا؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض -كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان!- وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس.. ووفقاُ لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق. ويكون من أمر غيرها ما يكون!... فليس للعبث -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم. وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة -كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى، وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية؛ وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار؛ يتضرعون إليه؛ ويطلبون رحمته وعفوه؛ ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له -والعبودية لله غاية الوجود الإنساني- وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) ولو اجتمع الإنس والجن -على قلب رجل واحد- على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً. ولو اجتمع الإنس والجن -على قلب رجل واحد- على معصيته -سبحانه- ما نقصوا في ملكه شيئاً [كما جاء في الحديث القدسي].. ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم؛ ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.. فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه.. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم -كما جاء في أوائل السورة- وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم. وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم؛ واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان؛ واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد! لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم، استحياء لقلوبهم بالألم. والألم خير مهذب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق.. (لعلهم يضرعون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالتقدير: وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلاّ أخذنا أهلها و {منْ} مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القر {لعلهم يضرّعون} فإنه يدل على أنهم لم يضرّعُوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء، فالتقدير: وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد الخ... آن، وشهد به تاريخ الأديان، ينبئ أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الانحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة، والأخذ: هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه، وهو معنى الغلبة، كما تقدم في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء} في سورة الأنعام (42).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا بيان الله تعالى للأمة من الأمم إذا بعث فيها نبيها الذي يدعوها إلى الإيمان بالله تعالى وحده، ويدعوها إلى الخير الذي يصلحون به في الدنيا والآخرة، ويقدمون على الله يوم القيامة بالعمل الصالح، فيجزيهم جزاءه وفقا وأخذ الله تعالى للقرى التي بعث فيها النبي بذلك؛ لأن الشدة تولد في قلب من عنده استعداد للإيمان الاتجاه إلى طلب النجاة، فتخضع النفس للحق إذا دعيت إليه، فإنه حيث الضعف أو الشعور به تنبع منابع الإيمان، وتتجه النفوس إلى الديان، وإن الله تعالى يختبرهم بذلك رجاء أن يضرعوا ويخضعوا، ويذللوا له – سبحانه وتعالى – وحده، فإنه وحده الخالق لكل شيء الذي يلجأ إليه عند هذه الشدائد. لما قدموا {لعلهم يضرعون} أي ليرجوا الضراعة والخشوع لله تعالى، وحيث كانت الضراعة، كان انفتاح القلب للإيمان؛ لأن الضراعة أعظم العبادة، كما قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية..}.
وكان من الواجب على الإنسان أنه ساعة ما تمسه الضراء أن يتجه إلى خالقه، ولقد جعل الله الضراء وسيلة تنبيه يتذكر بها الإنسان أن له ربا، وفي هذه اللحظة يجيب الحق الإنسان المضطر، ويغيثه مصداقا لقوله الحق: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [سورة النمل]: وإذا صنع الله مع المضطر هذا فقد يثوب إلى رشده ويقول: إن الإله الذي لم أجد لي مفزعا إلا هو، لا يصح أن أنساه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتلك هي سنة الله في الجماعات التي يعيش بينهم الأنبياء، فإنّ الله يهيّئ لهم الأجواء التي تفتح قلوبهم عليه، وترجعهم إليه، فقد يمرّ زمنٌ طويلٌ يعيش فيه الناس الشدائد والأهوال والعوامل المضرّة بأبدانهم وأموالهم تحت ضغط الظروف القاسية التي تتحرك أسبابها بإرادة الله، ليلجؤوا إليه، وليتضرّعوا فيطلبوا منه الخلاص، ليتحقّق من خلال ذلك الانفتاح على الإيمان وعلى خطّ الرسالات.وهذا ما ينبغي للإنسان أن يلتفت إليه، فيأخذ من كل ظاهرةٍ من ظواهر الحياة التي تمرّ به من بلاءٍ وعافيةٍ درساً ينفتح به على الله، فيعيش معه حالة التضرُّع والابتهال والدعاء، ويعيش في مجالٍ آخر حالة الشكر والطاعة والرضى، فيبقى مع الله في كل شيء، في جميع الظروف والأحوال، لأنّ ذلك هو المعنى العميق للإيمان في نفسه، في ما يتحرك به الإيمان من مشاعر ومواقف في حياة الإنسان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إذ لم تنفع المواعظ: إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث، وهي قواعد وأُصول إذا فكَّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعاً ـ ارتباطاً وثيقاً.
فالصِعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا، ويتركوا طغيانهم، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه. وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة وقلما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عندما يتورّطون في المحنة والبلاء، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهراً بلا اختيار، وتستعد قلوبهم لقبول الحق. ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة، ويعودون إلى الحق إلى الأبد. والأقوام الذين جرى الحديث في الآيات السابقة حولهم كانوا من النمط الأوّل...