التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الأخيار من ثواب فقال : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } .

أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة يؤتون أجرهم مضاعفا بسبب صبرهم على مغالبة شهواتهم ، وبسبب صبرهم على ما يستلزمه اتباع الحق من تكاليف .

قال القرطبى : قوله - تعالى - { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } ثبت فى صحيح مسلم عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وأدرك النبى صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله - عز وجل - وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن تغذيتها ، ثم أدبها فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران " .

قال علماؤنا : لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين ، فالكتابى كان مخاطبا من جهة نبيه ، ثم إنه خوطب من جهة نبينا ، فأجابه واتبعه فله أجر الملتين .

وقوله - تعالى - { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } بيان لصفة أخرى من صفاتهم الحسنة .

و { وَيَدْرَؤُنَ } من الدرء بمعنى الدفع ومنه الحديث الشريف : " ادرءوا الحدود بالشبهات " .

أى : لا يقابلون السيئة بمثلها ، وإنما يعفون ويصفحون ، ويقابلون الكلمة الخبيثة بالكلمة الحسنة .

{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أى : ومما أعطيناهم من مال يتصدقون ، بدون إسراف أو تقتير .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

44

هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل ، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه :

أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا . .

الصبر على الإسلام الخالص . إسلام القلب والوجه . ومغالبة الهوى والشهوة . والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة . أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، جزاء على ذلك الصبر ، وهو عسير على النفوس ، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف . وهؤلاء صبروا عليها جميعا ، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية ، وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان :

ويدرأون بالحسنة السيئة . .

وهذا هو الصبر كذلك . وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية . إنه الاستعلاء على كبرياء النفس ، ورغبتها في دفع السخرية ، ورد الأذى ، والشفاء من الغيظ ، والبرد بالانتقام ! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله . درجة السماحة الراضية . التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان ؛ وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه ، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين .

( ومما رزقناهم ينفقون ) . .

وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال ، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان . فهما من منبع واحد : منبع الاستعلاء على شهوة النفس ، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض . الأولى في النفس ، والثانية في المال . وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

قال الله : { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } أي : هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني [ يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بالرسول الأول ثم بالثاني ]{[22346]} ؛ ولهذا قال : { بِمَا صَبَرُوا } أي : على اتباع الحق ؛ فإنَّ تجشُّم مثل هذا شديد على النفوس . وقد ورد في الصحيحين من حديث عامر الشعبي ، عن أبي بُرْدَةَ ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورَجُل كانت له أمَة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوَّجها " {[22347]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السَّيلَحيني ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن سليمان{[22348]} بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : إني لتحتَ راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، فقال قولا حسنًا جميلا وقال فيما قال : " مَنْ أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله ما لنا وعليه ما علينا ، [ ومَنْ أسلم من المشركين ، فله أجره ، وله ما لنا وعليه ما علينا ] " {[22349]}-{[22350]} .

وقوله { وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : لا يقابلون السيئ{[22351]} بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون . { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي : ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خَلْق الله في النفقات الواجبة لأهلهم وأقاربهم ، والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات ، وصدقات النفل والقربات .


[22346]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[22347]:- صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
[22348]:- في ، أ : "سليم".
[22349]:- زيادة من ف ، أ ، ومسند أحمد.
[22350]:- المسند (5/259).
[22351]:- في ت ، ف ، أ : "يقابلون على السيئ".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .

يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، يُؤْتَوْن ثواب عملهم مرّتين بما صبروا .

واختلف أهل التأويل في معنى الصبر الذي وعد الله ما وعد عليه ، فقال بعضهم : وعدهم ما وعد جلّ ثناؤه ، بصبرهم على الكتاب الأوّل ، واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وصبرهم على ذلك . وذلك قول قَتادة ، وقد ذكرناه قبل .

وقال آخرون : بل وعدهم بصبرهم بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، وباتباعهم إياه حين بعث . وذلك قول الضحاك بن مزاحم ، وقد ذكرناه أيضا قبل ، وممن وافق قَتادة على قوله عبد الرحمن بن زيد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا كُنّا من قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ على دين عيسى ، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلموا ، فكان لهم أجرهم مرّتين : بما صبروا أوّل مرّة ، ودخلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسلام . وقال قوم في ذلك بما :

حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إن قوما كانوا مشركين أسلموا ، فكان قومهم يؤذونهم ، فنزلت أوْلئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ بِمَا صَبرُوا وقوله وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ يقول : ويدفعون بحسنات أفعالهم التي يفعلونها سيئاتهم ومِمّا رَزَقْناهُمْ من الأموال يُنْفِقُونَ في طاعة الله ، إما في جهاد في سبيل الله ، وإما في صدقة على محتاج ، أو في صلة رَحِم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَإذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّنا ، إنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ قال الله : أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْن بِمَا صَبرُوا وأحسن الله عليهم الثناء كما تسمعون ، فقال : وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ .