ثم بين - سبحانه - أنه قد تكفل بحفظ هذا القرآن الذي سبق للكافرين أن استهزءوا به ، وبمن نزل عليه فقال - تعالى - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
أى : إنا نحن بقدرتنا وعظم شأننا نزلنا هذا القرآن الذي أنكرتموه ؛ على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم { وإنا } لهذا القرآن { لحافظون } من كل ما يقدح فيه ، كالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف ، ولحافظون له بالإِعجاز ، فلا يقدر أحد على معارضته أو على الإِتيان بسورة من مثله ، ولحافظون له بقيام طائفة من أبناء هذه الأمة الإِسلامية باستظهاره وحفظه والذب عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
قال صاحب الكشاف : " قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رد لانكارهم واستهزائهم في قولهم { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ، ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومن بين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظاً من الشياطين ، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان . . . " .
وقال الآلوسى : ما ملخصه : " ولا يخفى ما في سبك الجملتين - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة ، وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد . و { نحن } ليس ضمير فصل لأنه لم يقع بين اسمين ، وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن . والضمير في { له } للقرآن كما هو الظاهر ، وقيل هو للنبى صلى الله عليه وسلم . . . " .
هذا ونحن ننظر في هذه الآية الكريمة ، من وراء القرون الطويلة منذ نزولها فنرى أن الله - تعالى - قد حقق وعده في حفظ كتابه ، ومن مظاهر ذلك :
1- أن ما أصاب المسلمين من ضعف ومن فتن ، ومن هزائم ، وعجزوا معها عن حفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم . . هذا الذي أصابهم في مختلف الأزمنة والأمكنة ، لم يكن له أى اثر على قداسة القرآن الكريم ، وعلى صيانته من أى تحريف .
ومن أسباب هذه الصيانة أن الله - تعالى - قيض له في كل زمان ومكان ، من أبناء هذه الأمة ، من حفظه عن ظهر قلب ، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبى صلى الله عليه وسلم ، وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر وفى كل عصر .
قال الفخر الرازى : فإن قيل : فلماذا اشتغل الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله بحفظه ، وما حفظه الله فلا خوف عليه ؟
فالجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله - تعالى - إياه ، فإنه - سبحانه - لما أن حفظه قيضهم لذلك . . . . .
2- أن أعداء هذا الدين - سواء أكانوا من الفرق الضالة المنتسبة للإِسلام أم من غيرهم - امتدت أيديهم الأثيمة إلى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فأدخلوا فيها ما ليس منها . . . وبذل العلماء العدول الضابطون ما بذلوا من جهود لتنقية السنة النبوية مما فعله هؤلاء الأعداء . .
ولكن هؤلاء الأعداء ، لم يقدروا على شيء واحد ، وهو إحداث شيء في هذا القرآن ، مع أنهم وأشباههم في الضلال ، قد أحدثوا ما أحدثوا في الكتب السماوية السابقة . .
قال بعض العلماء . سئل القاضى إسماعيل البصرى عن السر في تَطُّرق التغيير للكتب السالفة ، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله : إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } وتولى - سبحانه - حفظ القرآن بذاته فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
وقد ذكر الإِمام القرطبى ما يشبه ذلك نقلاً عن سفيان بن عيينه في قصة طويلة .
والخلاصة ، أن سلامة القرآن من أى تحريف - رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام ، ورغم تطاول القرون والدهور - دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة - خارجة عن قوة البشر - قد تولت حفظ هذا القرآن ، وهذه القوة هي قوة الله - عز وجل - ولا يمارى في ذلك إلا الجاحد الجهول .
ثم يردهم السياق إلى الهدى والتدبر . . إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق ، ليحقوه وينفذوه . والحق عند التكذيب هو الهلاك . فهم يستحقونه فيحق عليهم . فهو حق تنزل به الملائكة لتنفذه بلا تأخير . وقد أراد الله لهم خيرا مما يريدون بأنفسهم ، فنزل لهم الذكر يتدبرونه ويهتدون به ، وهو خير لهم من تنزيل الملائكة بالحق الأخير ! لو كانوا يفقهون :
( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون ) . .
فخير لهم أن يقبلوا عليه . فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل . ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف وهو يقودهم إلى الحق برعاية الله وحفظه ، إن كانوا يريدون الحق ، وإن كانوا يطلبون الملائكة للتثبت . . إن الله لا يريد أن ينزل عليهم الملائكة ، لأنه أراد بهم الخير فنزل لهم الذكر المحفوظ ، لا ملائكة الهلاك والتدمير .
وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر ؛ فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب - إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة - ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونا محفوظا لا تتبدل فيه كلمة ، ولا تحرف فيه جملة ، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر ، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل ، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل ، وتصونه من العبث والتحريف .
لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق ، وكثر فيه النزاع ، وطمت فيه الفتن ، وتماوجت فيه الأحداث . وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن وفي حديث رسول الله [ ص ] ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود - خاصة - ثم من " القوميين " دعاة " القومية " الذين تسموا بالشعوبيين !
ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله [ ص ] ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين لتحرير سنة رسول الله [ ص ] وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين .
كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية ، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات . .
ولكنها عجزت جميعا - وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابا - أن تحدث حدثا واحدا في نصوص هذا الكتاب المحفوظ ؛ وبقيت نصوصه كما أنزلها الله ؛ حجة باقية على كل محرف وكل مؤول ؛ وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ .
ثم جاء على المسلمين زمان - ما نزال نعانيه - ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم ، وعن حماية عقيدتهم ، وعن حماية نظامهم ، وعن حماية أرضهم ، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم . وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم ! وغير عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم ، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم . . كل منكر من العقائد والتصورات ، ومن القيم والموازين ، ومن الأخلاق والعادات ، ومن الأنظمة والقوانين . . . وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص " الإنسان " وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان . . وأحيانا إلى حياة يشمئز منها الحيوان . . ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من " التقدم " و " التطور " و " العلمانية " و " العلمية " و " الانطلاق " و " التحرر " و " تحطيم الأغلال " و " الثورية " و " التجديد " . . . . إلى آخر تلك الشعارات والعناوين . . وأصبح " المسلمون " بالأسماء وحدها مسلمين . ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير . وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع ، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقودا للنار . . وهو وقود هزيل ! . .
ولكن أعداء هذا الدين - بعد هذا كله - لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها . ولم يكونوا في هذا من الزاهدين . فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال !
ولقد بذل أعداء هذا الدين - وفي مقدمتهم اليهود - رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله . وقدروا على أشياء كثيرة . . قدروا على الدس في سنة رسول الله [ ص ] وعلى تاريخ الأمة المسلمة . وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون . وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين . وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون ، وبخاصة في العصر الحديث . .
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد - والظروف الظاهرية كلها مهيأة له - . . لم يقدروا على إحداث شيء فيهذا الكتاب المحفوظ ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه ؛ وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع ؛ فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب ، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقا تنزيل من عزيز حكيم .
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله [ ص ] مجرد وعد . أما هو اليوم - من وراء كل تلك الأحداث الضخام ؛ ومن وراء كل تلك القرون الطوال . فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب ، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول :
( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون ) . . وصدق الله العظيم . .
ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذكر ، وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل .
ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى : { لَهُ لَحَافِظُونَ } على النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] والمعنى الأول أولى ، وهو ظاهر السياق ، [ والله أعلم ]{[16094]}