التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

ثم وصفه الله - تعالى - بصفة رابعة فقال : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } .

تولى : من التولية بمعنى الإِدبار والانصراف ، ومتعلق تولى محذوف تقديره : تولى عنك .

وسعى : من السعي وهو المشي السريع وهو مستعار هنا لإِيقاع الفتنة والتخريب . والفساد كما قال الراغب - خروج الشيء عن الاعتدال قليلا كان الخروج عنه أو كثيراً ، ويضاده الصلاح يقال فسد فساداً وفسوداً إذا خرج عن الاستقامة .

والحرث : مصدر يحرث ، أي : أثار الأرض لإعدادها للزراعة ، ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض ، ثم أطلق وأريد به ما يترتب على ذلك من الزروع والثمار وهو المراد هنا .

والنسل : كما يقول القرطبي - ما خرج من كل أنثى من ولد . وأصله الخروج والسقوط ، ومنه نسل الشعر ينسل إذا سقط . ومنه { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } أي : يخرجون مسرعين .

والمعنى : وإذا أعرض هذا النوع من الناس وولاك دبره أسرع في الإِفساد بينهم ، وتفريق كلمتهم ، وإتلاف كل ما يقع تحت يده من الزروع والثمار والحيوان وما به قوام الحياة والأحياء .

فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم ، وعن إيذائه الشديد لهم .

وبعض العلماء يرى أن " تولى " مشتق من الولاية : يقال : ولي البلد وتولاه ، أي صار والياً له ، أميراً عليه . والمعنى على هذا الرأي .

وإذا صار - هذا النوع من الناس - والياً على قوم اجتذبهم إليه ببريق قوله ، وبمعسول لفظه ، وبأيمانه الفاجرة ، ومجادلته الباطلة ، حتى إذا ما التف الناس حوله سعى بينهم بالفساد ، وعمل على تقاطعهم وتباغضهم ، وحكم فيهم بالباطل ، ظناً منه أن هذا الخلق وذلك السلوك سيجعلهم دائماً طوع إرادته .

قال الإِمام الرازي : والقول الأول أقرب إلى نظم الآية ، لأن المقصود بيان نفاق هذا النوع من الناس ، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة ، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد .

وقوله { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } أي لا يرضى عن الذي منه الإِفساد في الأرض ، ويظهر للناس الكلام الحسن وهو يبطن لهم الفعل السيء ، لأنه - سبحانه - أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا ليفسدوا فيها .

فالجملة الكريمة تحذير منه - سبحانه - للمفسدين ، ووعيد لهم على خروجهم عن طاعته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

204

حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء ، وانكشف المستور ، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد :

( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ، ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد )

وإذا انصرف إلى العمل ، كانت وجهته الشر والفساد ، في قسوة وجفوة ولدد ، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والأثمار ، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال . . وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد . . مما كان يستره بذلاقة اللسان ، ونعومة الدهان ، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح . . ( والله لا يحب الفساد ) ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد . . والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس ؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا ، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تَوَلّىَ سَعَىَ فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفَسَادَ }

يعني بقوله جل ثناؤه : وإذا تولى ، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفا عنك . كما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : وإذا تَوّلى قال : يعني : وإذا خرج من عندك سعى . وقال بعضهم : وإذا غضب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج قال : قال ابن جريج في قوله : وإذَا تَوَلّى قال : إذا غضب .

فمعنى الآية : وإذا خرج هذا المنافق من عندك يا محمد غضبان عمل في الأرض بما حرّم الله عليه ، وحاول فيها معصية الله ، وقطع الطريق ، وإفساد السبيل على عباد الله ، كما قد ذكرنا آنفا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية من إحراقه زرع المسلمين وقتله حمرهم . والسعي في كلام العرب العمل ، يقال منه : فلان يسعى على أهله ، يعني به يعمل فيما يعود عليهم نفعه ومنه قول الأعشى :

وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غيرِ مُوَاكِلٍ *** قَيْسٌ فَضَرّ عَدُوّها وبَنى لَها

يعني بذلك : عمل لهم في المكارم . وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله وإذَا تَوَلّى سَعَى قال : عمل .

واختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق ، فقال بعضهم : تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل ، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق .

وقال بعضهم : بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : سَعَى في الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها : قطع الرحم ، وسفك الدماء ، دماء المسلمين ، فإذا قيل : لم تفعل كذا وكذا ؟ قال أتقرّب به إلى الله عز وجل .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تبارك وتعالى وصف هذا المنافق بأنه إذا تولى مدبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل في أرض الله بالفساد . وقد يدخل في الإفساد جميع المعاصي ، وذلك أن العمل بالمعاصي إفساد في الأرض ، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني الإفساد دون بعض . وجائز أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق ، وجائز أن يكون غير ذلك ، وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادا في الأرض ، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية . غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريق ، ويخيف السبيل ، لأن الله تعالى ذكره وصفه في سياق الآية بأنه سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، وذلك بفعل مخيف السبيل أشبه منه بفعل قطاع الرحم .

القول في تأويل قوله تعالى : وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلِ .

اختلف أهل التأويل في وجه إهلاك هذا المنافق ، الذي وصفه الله بما وصفه به من صفة إهلاك الحرث والنسل فقال بعضهم : كان ذلك منه إحراقا لزرع قوم من المسلمين وعقرا لحمرهم .

حدثني بذلك موسى بن هارون ، قال : ثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي . وقال آخرون بما .

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : وَإذَا تَوَلّى سَعَى فِي الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ الآية ، قال : إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم ، فيحبس الله بذلك القطر ، فيهلك الحرث والنسل ، والله لا يحبّ الفساد . قال : ثم قرأ مجاهد : ظَهَرَ الفَسادُ في البَرّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدي النّاسِ ليذُيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال : ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .

والذي قاله مجاهد وإن كان مذهبا من التأويل تحتمله الآية ، فإن الذي هو أشبه بظاهر التنزيل من التأويل وما ذكرنا عن السدي ، فلذلك اخترناه . وأما الحرث ، فإنه الزرع ، والنسل : العقب والولد ، وإهلاكه الزرع : إحراقه . وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربه وسعيه بالإفساد في الأرض ، وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القوّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك . وكذلك جائز في معنى إهلاكه النسل أن يكون كان بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل ، فيكون في قتله الاَباء والأمهات انقطاع نسلهما .

وجائز أن يكون كما قال مجاهد ، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حمر القوم من المسلمين وإحراقه زرعا لهم . وذلك وإن كان جائزا أن يكون كذلك ، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه ، والمراد بها كل من سلك سبيله في قتل كل ما قتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال إذا قتله بغير حق بل ذلك كذلك عندي ، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصص من ذلك شيئا دون شيء بل عمه .

وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي أنه سأل ابن عباس : ويُهلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ قال : نسل كل دابة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، أنه سأل ابن عباس : قال : قلت أرأيت قوله الحَرْثَ وَالنّسْلَ قال : الحرث حرثكم ، والنسل : نسل كل دابة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التيمي ، قال : سألت ابن عباس عن الحرث والنسل ، فقال : الحرث : ما تحرثون ، والنسل : نسل كل دابة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ فنسل كل دابة ، والناس أيضا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ويُهْلِكَ الحَرْث قال : نبات الأرض والنّسلَ من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدوابّ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ويُهْلِكَ الحَرْثَ قال : نبات الأرض ، والنّسلَ : نسل كل شيء .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الحرث : النبات ، والنسل : نسل كل دابة .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ويُهْلِكَ الحَرْثَ قال : الحرث الذي يحرثه الناس : نبات الأرض ، والنْسلَ : نسل كل دابة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنّسْلَ قال : الحرث : الزرع ، والنّسلَ من الناس والأنعام ، قال : يقتل نسل الناس والأنعام . قال : وقال مجاهد : يبتغي في الأرض هلاك الحرث : نبات الأرض ، والنسل : من كل شيء من الحيوان .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ قال : الحرث : الأصل ، والنسل : كل دابة والناس منهم .

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سئل سعيد بن عبد العزيز عن فساد الحرث والنسل وما هما أيّ حرث وأيّ نسل ؟ قال سعيد : قال مكحول : الحرث : ما تحرثون ، وأما النسل : فنسل كل شيء .

وقد قرأ بعض القرّاء : «ويُهْلِكُ الحَرْثَ وَالنّسْل » برفع «يهلك » على معنى : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدّنْيا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الخِصَامِ ، ويُهْلِكُ الحَرْثَ والنّسْلَ ، وَإذَا تَوَلى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدُ فِيها ، وَاللّهُ لا يُحِبّ الفَساد . فيردّ و«يهلك » على «ويشهد الله » عطفا به عليه . وذلك قراءة عندي غير جائزة وإن كان لها مخرج في العربية لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعة من القراءة في ذلك قراءة : ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه فيما ذكر لنا : «ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل » ، وذلك من أدلّ الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك وُيهْلِكَ بالنصب عطفا به على : لِيُفْسِدَ فِيها .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ لا يْحِبّ الفَسادَ .

يعني بذلك جل ثناؤه : والله لا يحبّ المعاصي ، وقطع السبيل ، وإخافة الطريق . والفساد : مصدر من قول القائل : فسد الشيء يفسد ، نظير قولهم : ذهب يذهب ذهابا ، ومن العرب من يجعل مصدر فسد فسودا ، ومصدر ذهب يذهب ذهوبا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

قوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض } إذا ظرف تضمن معنى الشرط .

و { تولى } إما مشتق من التولية وهي الإدبار والانصراف يقال ولى وتولى وقد تقدم قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم } [ البقرة : 142 ] أي وإذا فارقك سعى في الأرض ليفسد .

ومتعلق { تولى } محذوف تقديره تولى عنك ، والخطاب المقدر يجري على الوجهين المتقدمين وإما مشتق من الوَلاية : يقال وَلِيَ البلد وتولاه ، أي وإذا صار والياً أي إذا تزعم ورأس الناس سعى في الأرض بالفساد ، وقد كان الأخنس زعيم مواليه وهم بنو زهرة .

وقوله : { سعى في الأرض ليفسد فيها } السعي حقيقته المشي الحثيث قال تعالى : { وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى } [ القصص : 20 ] ويطلق السعي على العمل والكسب ، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] وقال امرؤ القيس :

*فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة *

البيتين ويطلق على التوسط بين الناس لإصلاح ذات البين أو لتخفيف الإضرار قال عمرو بن كلثوم :

ومِنَّا قَبْلَه السَّاعِي كُلَيْبٌ *** فأيُّ الفضل إلاّ قَدْ ولِينَا

وقال لبيد :

وهم السُّعاة إذا العشيرة أفظعت البيت ***

البيت . ويطلق على الحرص وبذل العزم لتحصيل شيء كما قال تعالى في شأن فرعون { ثم أدبر يسعى } [ النازعات : 22 ] فيجوز أن يكون هنا بالمعنيين الأول والرابع أي ذهب يسير في الأرض غازياً ومغيراً ليفسد فيها . فيكون إشارة إلى ما فعله الأخنس بزرع بعض المسلمين ، لأن ذلك مؤذن بكفره وكذبه في مودة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو كان وده صادقاً لما آذى أتباعه . أو إلى ما صنعه بزرع ثقيف على قول من قال من المفسرين إن الأخنس بيت ثقيفا وكانت بينه وبينهم عداوة وهم قومه فأغار عليهم بمن معه من بني زهرة فأحرق زروعهم وقتل مواشيهم . لأنَّ صنيعه هذا بقوم وإن كانوا يومئذٍ كفاراً لا يهم المسلمين ضُرهم ، ولأنه لم يفعله انتصاراً للإسلام ولم يكن في حالة حرب معهم فكان فعله ينم عن خبث طوية لا تتطابق مع ما يظهره من الخير ولين القول ؛ إذ من شأن أخلاق المرء أن تتماثل وتتظاهر فالله لا يرضى بإضرار عبيده ولو كفاراً ضراً لا يجر إلى نفعهم ؛ لأنهم لم يغزهم حملاً لهم على الإيمان بل إفساداً وإتلافاً ولذلك قال تعالى : { والله لا يحب الفساد } .

وقوله : { في الأرض } تأكيد لمدلول { سعى } لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله ، ولذلك قال بعده { ليفسد فيها } فاللام للتعليل ، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي .

ويجوز أن يكون { سعى } مجازاً في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمالَ الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقَول كَيْدٌ ويكون ليفسد مفعولاً به لفعل { سعى } والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبَّره ، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى :

{ يريد الله بكم اليسر إلى قوله ولتكملوا العدة } [ البقرة : 185 ] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدَّرَةِ معه ( أَنْ ) مفعول به كما في قوله تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ التوبة : 32 ] وقول جَزْءِ بنِ كُلَيْبٍ الفَقْعسي :

تبغَّى ابن كوز والسفاهة كاسمها *** ليستادَ منّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا

إذ التقدير تبغَّى الاستيادَ منا ، قال المرزوقي : أتى بالفعل واللام لأنّ تبغى مثل أراد فكما قال الله عز وجل : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم } [ التوبة : 32 ] والمعنى يريدون إطفاء نور الله كذلك قال تبغى ليستاد أي تبغى الاستياد منا اهـ .

وأقول : إن هذا الاستعمال يتأتى في كل موضع يقع فيه مفعول الفعل علةً للفعل مع كونه مفعولاً به ، فالبليغ يأتي به مقترناً بلام العلة اعتماداً على أن كونه مفعولاً به يعلم من تقدير ( أَن ) المصدرية .

ويكون قوله : { في الأرض } متعلقاً بسعى لإفادة أن سعيه في أمر من أمور أهل أرضكم ، وبذلك تكون إعادة { فيها } من قوله : { ليفسد فيها } بياناً لإجمال قوله : { في الأرض } مع إفادة التأكيد .

وقوله : { ويهلك الحرث والنسل } بضم الياء أي يتلفه .

والحرث هنا مراد منه الزرع ، والنسل أطفال الحيوان مشتق من نسل الصوف نسولاً إذا سقط وانفصل ، وعندي أن إهلاك الحرث والنسل كناية عن اختلال ما به قوام أحوال الناس ، وكانوا أهل حرث وماشية فليس المراد خصوص هذين بل المراد ضياع ما به قوام الناس ، وهذا جار مجرى المثل ، وقيل الحرث والنسل هنا إشارة إلى ما صنع الأخنس بن شريق ، وأياً ما كان فالآية دالة على أن من ينتسب في مثل ذلك صريحاً أو كناية مستحق للعقاب في الآخرة ولذلك عقب بجملة التذييل وهي { والله لا يحب الفساد } تحذيراً وتوبيخاً .

ومعنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد ، وإلاّ فالمحبة وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشىء مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وعند المعتزلة : الإرادة والمسألة مبنية على مسألة خلق الأفعال . ولا شك أن القدير إذا لم يرض بشيء يعاقب فاعله ، إذ لا يعوقه عن ذلك عائق وقد سمى الله ذلك فساداً وإن كان الزرع والحرث للمشركين : لأن إتلاف خيرات الأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء .

والفساد ضد الصلاح ، ومعنى الفساد : إتلاف ما هو نافع للناس نفعاً محضاً أو راجحاً ، فإتلاف الألبان مثلاً إتلاف نفع محض ، وإتلاف الحطب بعلة الخوف من الاحتراق إتلاف نفع راجح والمراد بالرجحان رجحان استعماله عند الناسي لا رجحان كمية النفع على كمية الضر ، فإتلاف الأدوية السامة فساد ، وإن كان التداوي بها نادراً لكن الإهلاك بها كالمعدوم لما في عقول الناس من الوازع عن الإهلاك بها فيتفادى عن ضرها بالاحتياط في رواجها وبأمانة من تسلم إليه ، وأما إتلاف المنافع المرجوحة فليس من الفساد كإتلاف الخمور بَلْه إتلاف ما لا نفع فيه بالمرة كإتلاف الحيَّات والعقارب والفيران والكِلاب الكَلِبَةِ ، وإنما كان الفساد غير محبوب عند الله لأن في الفساد بالتفسير الذي ذكرناه تعطيلاً لما خلقه الله في هذا العالم لحكمة صلاح الناس فإن الحكيم لا يحب تعطيل ما تقتضيه الحكمة ، فقتال العدوِّ إتلاف للضر الراجح ولذلك يقتصر في القتال على ما يحصل به إتلاف الضر بدون زيادة ، ومن أجل ذلك نهي عن إحراق الديار في الحرب وعن قطع الأشجار إلاّ إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيء من ذلك يزيد قوة العدو ويطيل مدة القتال ويخاف منه على جيش المسلمين أن ينقلب إلى هزيمة وذلك يرجع إلى قاعدة : الضرورةُ تقدر بقدرها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

[قال] يحيى: قال مالك: وإنما السعي في كتاب الله: العمل والفعل. يقول الله تبارك وتعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض}. وقال تعالى: {وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى} [عبس 8-9] وقال: {ثم أدبر يسعى} وقال: {إن سعيكم لشتى}. فرأى مالك أن الفساد في الأرض مثل القتل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وإذا تولى": وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفا عنك. وقال بعضهم: وإذا غضب.

فمعنى الآية: وإذا خرج هذا المنافق من عندك يا محمد غضبان عمل في الأرض بما حرّم الله عليه، وحاول فيها معصية الله، وقطع الطريق، وإفساد السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا آنفا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية من إحراقه زرع المسلمين وقتله حمرهم. والسعي في كلام العرب العمل.

واختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق؛

فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.

وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وصف هذا المنافق بأنه إذا تولى مدبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في الإفساد جميع المعاصي، وذلك أن العمل بالمعاصي إفساد في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني الإفساد دون بعض. وجائز أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك، وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريق، ويخيف السبيل، لأن الله تعالى ذكره وصفه في سياق الآية بأنه سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، وذلك بفعل مخيف السبيل أشبه منه بفعل قطاع الرحم.

"وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلِ".

اختلف أهل التأويل في وجه إهلاك هذا المنافق، الذي وصفه الله بما وصفه به من صفة إهلاك الحرث والنسل؛ فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقا لزرع قوم من المسلمين وعقرا لحمرهم. [روي عن السدي]

وقال آخرون: عن مجاهد:...إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل، والله لا يحبّ الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: "ظَهَرَ الفَسادُ في البَرّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدي النّاسِ ليذُيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ "قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر.

والذي قاله مجاهد وإن كان مذهبا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبه بظاهر التنزيل من التأويل وما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه. وأما الحرث، فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد، وإهلاكه الزرع: إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربه وسعيه بالإفساد في الأرض، وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القوّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى إهلاكه النسل أن يكون كان بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في قتله الاَباء والأمهات انقطاع نسلهما.

وجائز أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حمر القوم من المسلمين وإحراقه زرعا لهم. وذلك وإن كان جائزا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه، والمراد بها كل من سلك سبيله في قتل كل ما قتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال إذا قتله بغير حق بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصص من ذلك شيئا دون شيء بل عمه.

عن التميمي أنه سأل ابن عباس: "ويُهلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْلَ "قال: نسل كل دابة.

عن مجاهد: "ويُهْلِكَ الحَرْث" قال: نبات الأرض والنّسلَ من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدوابّ.

"وَاللّهُ لا يحِبّ الفَسادَ": والله لا يحبّ المعاصي، وقطع السبيل، وإخافة الطريق.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قيل فيه أي: في قوله تعالى: {وإذا تولى سعى...}] بوجوه:

قيل: {ويهلك الحرث} أي يقتل النساء، وهن حرث، كقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة: 223]، وفي إهلاك النساء إهلاك الناس،

وقيل: أراد بالحرث نفسه، وهو الزرع، وبالنسل الدواب؛ يحرق الحرث، ويعقر الدواب وكل حيوان،

وقيل: إنهم كانوا يسعون بالفساد، ويعملون بالمعاصي، فيمسك الله عنهم المطر، فيهلك كل شيء من الناس وغيرهم.

ويحتمل: (ويهلك الحرث) قتل ولد آدم، وفي إهلاكهم إهلاك كل حرث؛ لأنهم هم الذين يحرثون، ويتناسلون، والله أعلم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الإفساد: هو عمل الضرر بغير استحقاق، ولا وجه من وجوه المصلحة.

والإهلاك: العمل الذي ينفي الانتفاع... والحرث: الزرع. والنسل: العَقِب من الولد. قال الضحاك: الحرث: كل نبات، والنسل: كل ذات. ويقال: نسل ينسل نسولا: إذا خرج، فسقط. ومنه نسل وبر البعير أو شعر الحمار أو ريش الطائر. [و] النسالة: قطعة من الوبر، قال الله تعالى:"إلى ربهم ينسلون" أي يسرعون، لأنه إسراع الخروج بحدة. والنسل: الولد، ما نسل بعضه من بعض. والناس نسل آدم، لخروجهم من ظهره. والنسل والنسلان: عدو من عدو الذئب فيه اضطراب. والنسيلة: فتيلة السراج، وأصل الباب النسول: الخروج.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَإِذَا تولى} عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق {سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا} وقيل: {وَإِذَا تولى}: وإذا كان والياً، فعل ما يفعل ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة في الإفساد، إذ كل فساد في أمور الدنيا، فعلى هذين الفصلين يدور.

و {لا يحب} معناه لا يحبه من أهل الصلاح، أي لا يحبه ديناً، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه، والفساد واقع.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها}...

[وقد] كان بعد الانصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى فسادا، قال تعالى: حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له: {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} أي يردوا قومك عن دينهم، ويفسدوا عليهم شريعتهم، وقال أيضا: {إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}...

وإنما سمي هذا المعنى فسادا في الأرض لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء.

قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض، وقطع الأرحام، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن،

واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب، لأنه تعالى قال: {ويهلك الحرث والنسل} والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة. فإن قيل: أفَتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل، أو تدل على أنه أراد ذلك؟. قلنا: إن قوله: {سعى في الأرض ليفسد فيها} دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك، ثم قوله: {ويهلك الحرث والنسل} إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك، فإن تقدير الآية هكذا: سعى في الأرض ليفسد فيها، وسعى ليهلك الحرث والنسل، وإن جعلناه كلاما مبتدأ منقطعا عن الأول، دل على وقوع ذلك، والأول أولى.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}: لا يحب مَن هذه صفَته، ولا مَن يصدر منه ذلك.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر أنه ألد شرع يذكر وجه لدده فقال عاطفاً على ما تقديره: فإذا واجهك اجتهد في إظهار أنه مصلح أو تكون جملة حالية {وإذا تولى} أي أعرض بقلبه أو قاله عمن خدعه بكلامه، وكنى بالتعبير بالسعي عن الإسراع في إيقاع الفتنة بغاية الجهد فقال: {سعى} ونبه على كثرة فساده بقوله: {في الأرض} أي كلها بفعله وقوله عند من يوافقه {ليفسد} أي ليوقع الفساد وهو اسم لجميع المعاصي {فيها} أي في الأرض في ذات البين لأجل الإهلاك والناس أسرع شيء إليه فيصير له مشاركون في أفعال الفساد، فإذا فعل منه ما يريد كان معروفاً عندهم فكان له عليه أعوان

وبين أنه يصل بإفساده إلى الغاية بقوله مسمياً المحروث حرثاً مبالغة: {ويهلك الحرث} أي المحروث الذي يعيش به الحيوان، قال الحرالي سماه حرثاً لأنه الذي نسبه إلى الخلق، ولم يسمه زرعاً لأن ذلك منسوب إلى الحق -انتهى.

ولأنه إذا هلك السبب هلك المسبب من غير عكس {والنسل} أي المنسول الذي به بقاء نوع الحيوان. قال الحرالي: وهو استخراج لطيف الشيء من جملته...

وفعله ذلك للإفساد ونظمت الآية هكذا إفهاماً لأن المعنى أن غرضه أولاً بإفساد ذات البين التوصل إلى الإهلاك وثانياً بالإهلاك التوصل إلى الإفساد

{والله} أي والحال أن الملك الأعظم {لا يحب الفساد} أي لا يفعل فيه فعل المحب فلا يأمر به بل ينهى عنه ولا يقر عليه بل يغيره وإن طال المدى ويعاقب عليه، ولم يقل: الهلاك، لأنه قد يكون صورة فقط فيكون صلاحاً كما إذا كان قصاصاً ولا قال: الإفساد يشمل ما إذا كان الفساد عن غير قصد.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وانظر ما قاله عز شأنه في وصف فريق الدعاوى العريضة، والقلوب المريضة، قال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها}

[و] في تفسير التولي هنا قولان:

أحدهما: أن صاحب الدعوى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه فإن سعيه يكون على ضد ما قال يدعي الصلاح والإصلاح وحب الخير، ثم هو يسعى في الأرض بالفساد، ذلك [بأنه] لا هم له إلا في الشهوات واللذات والحظوظ الخسيسة، فهو يعادي لأجلها أهل الحق والفضيلة ويؤذيهم، لأنه ألد خصم لهم للتناقض والتضاد في الغرائز والسجايا، ويعادي أيضا المزاحمين له من أمثاله المفسدين، فلا يكون له هم وراء التمتع وأسبابه إلا الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم فهو يفسد باعتدائه على الأموال والأعراض {ويهلك الحرث والنسل} بما يكون من أثر إفساده في اعتدائه وهو ذهاب ثمرات الحرث وهو الزرع، والنسل وهو ما تناسل من الحيوان، وكأنه إشارة إلى مكاسب أهل الحضارة وأهل البادية...

وقال الأستاذ الإمام: إن إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد وقد صار التعبير به ذلك من قبيل المثل فالمعنى أنه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى هلاك الحرث والنسل وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}؛ وإذا كان لا يحب الفساد، فهو يبغض العبد المفسد في الأرض، غاية البغض، وإن قال بلسانه قولا حسنا...

ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص، ليست دليلا على صدق ولا كذب، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود، والمحق والمبطل من الناس، بسبر أعمالهم، والنظر لقرائن أحوالهم، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد و الفساد: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد} وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والأثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال.. وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد.. مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح... والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقوله: {في الأرض} تأكيد لمدلول {سعى} لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله، ولذلك قال بعده {ليفسد فيها} فاللام للتعليل، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.

ويجوز أن يكون {سعى} مجازاً في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمالَ الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقَول كَيْدٌ ويكون ليفسد مفعولاً به لفعل {سعى} والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبَّره، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر إلى قوله ولتكملوا العدة} [البقرة: 185] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدَّرَةِ معه (أَنْ) مفعول به كما في قوله تعالى: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} [التوبة: 32] ومعنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد، وإلاّ فالمحبة وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشئ مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وقد سمى الله ذلك فساداً وإن كان الزرع والحرث للمشركين: لأن إتلاف خيرات الأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

و قد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {و الله لا يحب الفساد} وذلك لعدة أمور:

أولا – لبيان أن الله لا يحب ذلك الصنف من الناس الذي يخدع الناس ويكذب على الله، ويجادل ويماري، ويضل عن بينة، ويسعى في الأرض بالفساد، إذ الله لا يحب الفساد فلا يحب المفسدين، ومن لا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته، معرض لنقمته.

ثانيا- ولبيان أن الله سبحانه وتعالى لا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم، فهو الغني الحميد الذي لا يكسب من عبادة عابد، ولا يضار من فسق فاسق، إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم.

ثالثا – وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر، وأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة.

رابعا- وأن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها لا ليفسدها، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا إلى ما يدمر الأرض ويخربها ويجعلوا عاليها سافلها قد ضلوا عن سنة الله، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله، لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وما سبق في هذه الآية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة الإسلامية في أول عهدها، من الذين كانوا ينافقون واقعها القوي، فيأتون بأقوال تعجب، وبأفعال تعجب من ينافق. ونعرف أن النفاق كان دليلا على قوة المسلمين، ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة، وإنما نشأ في المدينة. فقد قال الحق: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} (من الآية 101 سورة التوبة).

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَإِذَا تَوَلَّى} ووصل إلى الموقع القيادي الذي يطمح إليه من أجل الحصول على النتائج المعنوية والمادية لحساباته الخاصة، واكتسب ثقة النّاس به وتأييدهم له، فأصبح رمزاً دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً يُشار إليه بالبنان، ويجري النّاس من خلفه تابعين له، {سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} بما يثيره في المجتمع من المشاكل والمنازعات والوسائل المدمّرة التي تحطم كلّ ما في الحياة من ثروة، ومن بشر... وينطلق في المجالات التي تفسد واقع النّاس الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمتد في طغيانه بعيداً عن رضا اللّه ومحبته.

{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} فإنه سبحانه يريد للحياة أن تعيش في أجواء الخير والصلاح التي تنمي خيراتها، وتطوّر مجتمعاتها، وترتفع فيها بالإنسان إلى الدرجات العلى في عقله وروحه وحركته. ولذلك أرسل رسله بالرسالات المتنوّعة التي تخطّط للحياة الإنسانية، لتسير في الاتجاه الصحيح الذي ينسجم مع عناصر الحياة المودعة في شخصية الإنسان، وفي حركة السنن الكونية في الحياة...

وقد تكون كلمة {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} واردة على نحو الكناية، لأنَّ الطغاة المنافقين الذين يتولون أمور الأمّة يعملون على إبادة حضارتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، بحيث لا تبقى هناك أية قوّة لأي وجود، ولا أية ثروة لأية جماعة؛ فكأنه يهلك الحرث والنسل، لأنه يهلك الواقع السليم كلّه. وهذه عبارة تتكرر في الأساليب الأدبية في مقام التعبير عن الإنسان الذي يخرّب الواقع كلّه.