التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ} (6)

ولهذا قال : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . } .

وعلى هذا الرأى - أيضا - يكون المردودون إلى " أسفل سافلين " أي : إلى النار ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الكفار ، والفاسقون عن أمره - تعالى - .

ومنها : أن المراد بالرد إلى أسفل سافلين هنا : الانحراف والارتداد عن الفطرة التى فطر الله - تعالى - الناس عليها ، بأن يعبد الإِنسان مخلوقاً مثله ، ويترك عبادة خالقه ، ويطيع نفسه وشهواته وهواه . . ويترك طاعة ربه - عز وجل - .

وقد فصل الأستاذ الإِمام هذا المعنى فقال ما ملخصه : " أقسم - سبحانه - أنه قوم الإِنسان أحسن تقويم ، وركبه أحسن تركيب ، وأكد - سبحانه - ذلك بالقسم ؛ لأن الناس بسبب غفلتهم عما كرمهم الله به ، صاروا كأنهم ظنوا أنفسهم كسائر أنواع العجماوات ، يفعلون كما تفعل ، لا يمنعهم حياء ولا تردهم حشمة . فانحطت بذلك نفوسهم عن مقامها ، الذى كان لها بمقتضى الفطرة . . فهذا قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ، أي : صيرناه أسفل من كثير من الحيوانات التى كانت أسفل منه ، لأن الحيوان المفترس - مثلاً - إنما يصدر فى عمله عن فطرته التى فطر عليها ، لم ينزل عن مقامه ، ولم ينحط عن منزلته فى الوجود .

أما الإِنسان فإنه بإهماله عقله ، وجهله بما ينبغى أن يعمله لتوفير سعادته وسعادة إخوانه ، ينقلب أرذل من سائر أنواع الحيوان ، ولطالما قلت : " إذا فسد الإِنسان فلا تسل عما يصدر عنه من هذيان أو عدوان " .

والذى يتأمل الرأي الثاني والثالث يرى أن بينهما تلازماً ؛ لأن الانحراف عن الفطرة السوية يؤدىي إلى الدخول فى النار وبئس القرار ، وهذان الرأيان أولى بالقبول ؛ لأن الاستثناء فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يؤيد ذلك ، إذ المعنى عليها : لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة ، وإيثاره الغي على الرشد ، والكفر على الإِيمان .

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وساروا على مقتضى فطرتهم ، فأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة . . فلهم أجر غير مقطوع عنهم أو غير ممنون به عليهم ، بل هم قد اكتسبوا هذا الأجر الدائم العظيم ، بسبب إيمانهم وعملهم الصالح .

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ، " ثم " هنا للتراخى الزمانى أو الرتبي ، والرد يجوز أن يكون بمعنى الجعل ، فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر . فأسفل مفعول ثان ، والمعنى : ثم جعلناه من أهل النار ، الذين هم أقبح ، وأسفل من كل سافل . . ويجوز أن يكون الرد بمعناه المعروف ، وأسفل منصوب بنزع الخافض .

أي : رددناه إلى أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم . .

وقوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } استثناء متصل من ضمير " رددناه العائد على الإِنسان ، فإنه فى معنى الجمع ، فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم . وحسنا على حسنهم . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ} (6)

( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح ، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها ، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . ( فلهم أجر غير ممنون )دائم غير مقطوع .

فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين ، فيظلون ينحدرون بها في المنحدر ، حتى تستقر في الدرك الأسفل . هناك في جهنم ، حيث تهدر آدميتهم ، ويتمحضون للسفول !

فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء . . إما استقامة على الفطرة القويمة ، وتكميل لها بالإيمان ، ورفع لها بالعمل الصالح . . فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم . . وإما انحراف عن الفطرة القويمة ، واندفاع مع النكسة ، وانقطاع عن النفخة الإلهية . . فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم .

ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها . إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين .

وحين ينقطع هذا الحبل ، وحين ينطفئ هذا النور ، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين ، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية ، حين يتمحض الطين في الكائن البشري ، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ} (6)

وقوله : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ اختلف أهل التأويل في معنى هذا الاستثناء ، فقال بعضهم : هو استثناء صحيح من قوله ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قالوا : وإنما جاز استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهم جمع ، من الهاء في قوله ( ثُمّ رَدَدْناهُ ) وهي كناية الإنسان ، والإنسان في لفظ واحد ، لأن الإنسان وإن كان في لفظ واحد ، فإنه في معنى الجمع ، لأنه بمعنى الجنس ، كما قيل : ( وَالْعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) قالوا : وكذلك جاز أن يقال : ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ فيضاف أفعل إلى جماعة ، وقالوا : ولو كان مقصودا به قصدُ واحد بعينه ، لم يجز ذلك ، كما لا يُقال : هذا أفضل قائمين ، ولكن يقال : هذا أفضل قائم ، ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن سعيد بن سابق ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة ، قال : ( كان يقال ) : من قرأ القرآنلم يُردّ إلى أرذل العمر ، ثم قرأ : ( لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي أحْسَن تَقْوِيمٍ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال : لا يكونُ حتى لا يعلَم من بعد علم شيئا .

فعلى هذا التأويل قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) لخاصّ من الناس ، غير داخل فيهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنه مستثنى منهم .

وقال آخرون : بل الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد يدخلون في الذين رُدّوا إلى أَسْفَل سافلين ، لأن أرذْل العُمر قد يردّ إليه المؤمن والكافر . قالوا : وإنما استثنى قوله : ( إلاّ الّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) من معنى مضمر في قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قالوا : ومعناه : ثم رددناه أسفل سافلين ، فذهبت عقولهم وخَرِفوا ، وانقطعت أعمالهم ، فلم تثبت لهم بعد ذلك حسنة ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ) فإن الذي كانوا يعملونه من الخير ، في حال صحة عقولهم ، وسلامة أبدانهم ، جارٍ لهم بعد هَرَمهم وخَرَفهم .

وقد يُحتمل أن يكون قوله : ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ) استثناء منقطعا ، لأنه يحسن أن يقال : ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم أجر غير ممنون ، بعد أن يردّ أسفل سافلين . ذكر من قال معنى هذا القول :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونِ ) قال : فأيّما رجل كان يعمل عملاً صالحا وهو قويّ شاب ، فعجز عنه ، جرى له أجر ذلك العمل حتى يموت .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( لاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ ) يقول : إذا كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها ، ثم كبر حتى ذهب عقله ، كُتب له مثل عمله الصالح ، الذي كان يعمل في شبيبته ، ولم يُؤاخذ بشيء مما عمل في كبره ، وذهاب عقله ، من أجل أنه مؤمن ، وكان يطيع الله في شبيبته .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر ، فإذا بلغ المؤمن إلى أرذل العمر ، كُتِب له كأحسن ما كان يعمل في شبابه وصحته ، فهو قوله : ( فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ ) .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ( ثُمّ ردَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) فإنه يكتب له من الأجر ، مثل ما كان يعمل في الصحة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) قال : إذا بلغ من الكبر ما يعجز عن العمل ، كُتب له ما كان يعمل .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) فإنه يُكتب لهم حسناتهم . ويُتجاوز لهم عن سيئاتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن أبي رَزِين ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال : هم الذين أدركهم الكِبرَ ، لا يؤاخذون بعمل عملوه في كبرهم ، وهم هَرْمَى لا يعقلون .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سُئل عكِرمة ، عن قوله : ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ ) قال : يوفيه الله أجره أو عمله ، ولا يؤاخذه إذا رُدّ إلى أرذل العمر .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت الحكم يحدّث ، عن عكرِمة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال : الشيخ الهَرِم لم يضرّه كبره إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال : من أدركه الهرم ، وكان يعمل صالحا ، كان له مثل أجره إذا كان يعمل .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم رددناه أسفل سافلين في جهنم ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون ، فعلى هذا التأويل : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) مستثَنون من الهاء في قوله : ثُمّ رَدَدْناهُ ، وجاز استثناؤهم منها إذ كانت كناية للإنسان ، وهو بمعنى الجمع ، كما قال : ( إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إلاّ الّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا ) : إلا من آمن .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) : في النار ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال الحسن : هي كقوله : ( وَالْعَصْر إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) .

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة ، قول من قال : معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال صحتهم وشبابهم ، فلهم أجر غير ممنون بعد هَرَمهم ، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم ، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة لما وصفنا من الدلالة على صحة القول بأن تأويل قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَل سافِلِينَ )إلى أرذل العمر .

واختلفوا في تأويل قوله : غَيرُ مَمْنُونٍ فقال بعضهم : معناه : لهم أجر غير منقوص . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ ) يقول : غير منقوص .

وقال آخرون : بل معناه : غير محسوب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ( فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ ) : غير محسوب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ ) قال : غير محسوب .

قال : ثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ( فَلَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال : غير محسوب .

قال : ثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ( فَلَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال : غير محسوب .

وقد قيل : إن معنى ذلك : فلهم أجر غير مقطوع .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : فلهم أجر غير منقوص ، كما كان له أيام صحته وشبابه ، وهو عندي من قولهم : جبل مَنِين : إذا كان ضعيفا ، ومنه قول الشاعر :

أعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثَمَانِيَةٌ *** ما فِي عَطائِهِمُ مَنّ وَلا سَرَفُ

يعني : أنه ليس فيه نقص ، ولا خطأ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ} (6)

ثم أخبر أن { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وإن نال بعضهم هذا في الدنيا { فلهم } في الآخرة { أجر غير ممنون } ، وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية : المعنى { رددناه أسفل سافلين } في النار على كفره ، ثم استثنى { الذين آمنوا } استثناء منفصلاً ، فهم على هذا ليس فيهم من يرد أسفل سافلين في النار على كفره ، وفي حديث عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله تعالى حسابه ، فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة ، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه ، وشفع في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئاً كتب الله له ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة{[11893]} . » وفي حديث «إن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب الله له خير ما كان يعمله في قوته ، وذلك أجر غير ممنون . {[11894]} » و { ممنون } معناه : محسوب مصَرِّد{[11895]} يمن عليهم ، قاله مجاهد وغيره ، وقال كثير من المفسرين : معناه مقطوع من قولهم حبل منين ، أي ضعيف منقطع .


[11893]:أخرجه أحمد في مسنده (3/218) عن أنس رضي الله عنه، وفيه: (ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله عليه الحساب، فإذا بلغ ...إلخ).
[11894]:أخرج البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما)، كذلك أخرجه ابن مردويه عن أبي موسى مع اختلاف في بعض الألفاظ، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة – ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- حديثا طويلا (جاء في آخره (وفي لفظ قال: من رد منهم إلى أرذل العمر جرى له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه، فذلك الأجر غير ممنون، قال: ولا يمن به عليهم).
[11895]:التصريد في الأجر: تقليله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ} (6)

استثناء متصل من عموم الإِنسان فلما أخبر عن الإِنسان بأنه ردّ أسفل سافلين ثم استثني من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين .

والمعنى : أن الذين آمنوابعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإِشراك صاروا بالإِيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإِنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم .

وعُطف { وعملوا الصالحات } لأن عمل الصالحات من أحسن التقويم بعد مجيء الشريعة لأنها تزيد الفطرة رسوخاً وينسحب الإِيمان على الأخلاق فيردها إلى فضلها ثم يهديها إلى زيادة الفضائل من أحاسنها ، وفي الحديث : « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » .

فكان عطف { وعملوا الصالحات } للثناء على المؤمنين بأن إيمانهم باعث لهم على العمل الصالح وذلك حال المؤمنين حين نزول السورة فهذا العطف عطف صفة كاشفة .

وليس لانقطاع الاستثناء هنا احتمال لأن وجود الفاء في قوله : { فلهم أجر غير ممنون } يأباه كل الإِبايَة .

وفُرع على معنى الاستثناء وهو أنهم ليسوا ممن يرد أسفل سافلين الإِخبارُ بأن لهم أجراً عظيماً لأن الاستثناء أفاد أنهم ليسوا بأسفل سافلين فأريد زيادة البيان لفضلهم وما أعد لهم .

وتنوين { أجر } للتعظيم .

والممنون : الذي يُمنّ على المأجُور به ، أي لهم أجر لا يشوبه كدر ، ولا كدر أن يمنّ على الذي يعطاه بقول : هذا أجرك ، أو هذا عطاؤك ، فالممنون مَفْعول مَنّ عليه ، ويجوز أن يكون مفعولاً من مَنَّ الحبلَ ، إذا قطعه فهو منين ، أي مقطوع أو موشك على التقطع .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ} (6)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم استثنى ، فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } يعني غير منقوص ، لا يمن به عليهم ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله : "إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ"؛ اختلف أهل التأويل في معنى هذا الاستثناء؛

فقال بعضهم : هو استثناء صحيح من قوله ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ )... عن عكرمة ، قال : ( كان يقال ) : من قرأ القرآن لم يُردّ إلى أرذل العمر ، ثم قرأ : ( لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي أحْسَن تَقْوِيمٍ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال : لا يكونُ حتى لا يعلَم من بعد علم شيئا .

فعلى هذا التأويل قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) لخاصّ من الناس ، غير داخل فيهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنه مستثنى منهم .

وقال آخرون : بل الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد يدخلون في الذين رُدّوا إلى أَسْفَل سافلين ، لأن أرذْل العُمر قد يردّ إليه المؤمن والكافر . قالوا : وإنما استثنى قوله : ( إلاّ الّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) من معنى مضمر في قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قالوا : ومعناه : ثم رددناه أسفل سافلين ، فذهبت عقولهم وخَرِفوا ، وانقطعت أعمالهم ، فلم تثبت لهم بعد ذلك حسنة ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ) فإن الذي كانوا يعملونه من الخير ، في حال صحة عقولهم ، وسلامة أبدانهم ، جارٍ لهم بعد هَرَمهم وخَرَفهم .

وقد يُحتمل أن يكون قوله : ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ ) استثناء منقطعا ، لأنه يحسن أن يقال : ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم أجر غير ممنون ، بعد أن يردّ أسفل سافلين ... عن ابن عباس ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيرُ مَمْنُونِ ) قال : فأيّما رجل كان يعمل عملاً صالحا وهو قويّ شاب ، فعجز عنه ، جرى له أجر ذلك العمل حتى يموت ...

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ( إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) فإنه يُكتب لهم حسناتهم . ويُتجاوز لهم عن سيئاتهم ...

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم رددناه أسفل سافلين في جهنم ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون ...

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة ، قول من قال : معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال صحتهم وشبابهم ، فلهم أجر غير ممنون بعد هَرَمهم ، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم ، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة لما وصفنا من الدلالة على صحة القول بأن تأويل قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَل سافِلِينَ )إلى أرذل العمر .

واختلفوا في تأويل قوله : "غَيرُ مَمْنُونٍ"؛

فقال بعضهم : معناه : لهم أجر غير منقوص ...

وقال آخرون : بل معناه : غير محسوب ...

وقد قيل : إن معنى ذلك : فلهم أجر غير مقطوع .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : فلهم أجر غير منقوص ، كما كان له أيام صحته وشبابه ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم . ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم أخبر أن { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وإن نال بعضهم هذا في الدنيا { فلهم } في الآخرة { أجر غير ممنون } .. ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ إلا الذين آمنوا } أي بالله ورسله فكانوا من ذوي البصائر والمعارف ، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم ، وحميناهم من أرذل العمر ، فكانوا كلما زدناهم سناً زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم ...{ وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الإيمان { الصالحات } أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان ، ... { فلهم } أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى { أجر } أي عظيم جداً وهو مع ذلك { غير ممنون } أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم لكونهم سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح ، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها ، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . ( فلهم أجر غير ممنون )دائم غير مقطوع ...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والممنون : الذي يُمنّ على المأجُور به ، أي لهم أجر لا يشوبه كدر ، ولا كدر أن يمنّ على الذي يعطاه بقول : هذا أجرك ، أو هذا عطاؤك ، فالممنون مَفْعول مَنّ عليه ...