التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا} (8)

بعد كل ذلك ساق - سبحانه - جانبا من سوء عاقبة الأقوام الذين فسقوا عن أمر ربهم ، وخالفوا رسله : وكرر الأمر بتقواه ، وذكر الناس بجانب من نعمه ، حيث أرسل إليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليتلوا عليهم آياته . . . كما ذكرهم بعظيم قدرته - تعالى - وشمول علمه ، فقال - سبحانه - : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ . . . } .

كلمة { وَكَأِيِّن } اسم لعدد كثير منهم ، يفسره ما بعده ، فهى بمعنى " كم " الخبرية التى تفيد التكثير ، وهى مبتدأ ، وقوله { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز لها .

وجملة { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } خبر للمبتدأ . والعتو : الخروج عن الطاعة ، يقال : عتا فلان يعتو عتوا وعتيا . إذا تجبر وطغى وتجاوز الحدود فى الاستكبار والعناد .

والمراد بالقرية : أهلها ، على سبيل المجاز المرسل ، من إطلاق المحل وإرادة الحال ، فهو كقوله - تعالى - : { وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا } والقرينة على أن المراد بالقرية أهلها ، قوله - تعالى - بعد ذلك : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } .

والمراد بالمحاسبة فى قوله { فَحَاسَبْنَاهَا . . } المجازاة والمعاقبة الدنيوية على أعمالهم ، بدليل قوله - تعالى - عن العذاب الأخروى بعد ذلك { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } .

ويجوز أن يراد بالمحاسبة هنا : العذاب الأخروى ، وجىء بلفظ الماضى على سبيل التأكيد وتحقق الوقوع ، كما فى قوله - تعالى - : { ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار . . } ويكون قوله - سبحانه - : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } تكريرا للوعيد .

والمعنى : وكثير من أهل القرى الماضية ، خرجوا عن طاعة ربهم ، وعصوا رسله ، فكانت نتيجة ذلك أن سجلنا عليهم أفعالهم تسجيلا دقيقا ، وجازيناهم عليها جزاء عادلا ، بأن عذبناهم عذابا فظيعا . وعاقبناهم عقابا نكرا . .

والشىء النكر بضمتين وبضم فسكون - ما ينكره العقل من شدة كيفية حدوثه إنكارا عظيما .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا} (8)

فإذا انتهى السياق من هذا كله ساق العبرة الأخيرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله ، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا . وعلق هذه العبرة على الرؤوس ، تذكرهم بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتقي ولا يطيع . كما تذكرهم بنعمة الله على المؤمنين المخاطبين بالسورة والتشريع :

وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ، فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا . فذاقت وبال أمرها ، وكان عاقبة أمرها خسرا . أعد الله لهم عذابا شديدا . فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، قد أنزل الله إليكم ذكرا : رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . قد أحسن الله له رزقا . .

وهو إنذار طويل وتحذير مفصل المشاهد . كما أنه تذكير عميق بنعمة الله بالإيمان والنور ، ووعده بالأجر في الآخرة وهو أحسن الرزق وأكرمه .

فأخذ الله لمن يعتو عن أمره ولا يسلم لرسله هو سنة متكررة : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ) . وتفصيل أخذها وذكر الحساب العسير والعذاب النكير ،

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا} (8)

وقوله : وكأيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أمْرِ رَبّها وَرُسُلِهِ يقول تعالى ذكره : وكأين من أهل قرية طغوا عن أمر ربهم وخالفوه ، وعن أمر رسل ربهم ، فتمادوا في طغيانهم وعتوّهم ، ولجوا في كفرهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، في قوله وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أمْرِ رَبّها وَرُسُلِهِ قال : غَيّرت وعَصَت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أمْرِ رَبّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِسابا شَدِيدا قال : العتوّ ههنا الكفر والمعصية ، عُتوّا : كفرا ، وعتت عن أمر ربها : تركته ولم تقبله .

وقيل : إنهم كانوا قوما خالفوا أمر ربهم في الطلاق ، فتوعد الله بالخبر عنهم هذه الأمة أن يفعل بهم فعله بهم إن خالفوا أمره في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت عمر بن سليمان يقول في قوله : وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أمْرِ رَبّها وَرُسُلِهِ قال : قرية عُذّبت في الطلاق .

وقوله : فَحاسَبْناها حِسابا شَدِيدا يقول : فحاسبناها على نعمتنا عندها وشكرها حسابا شديدا ، يقول : حسابا استقصينا فيه عليهم ، لم نعف لهم فيه عن شيء ، ولم نتجاوز فيه عنهم ، كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله : فَحاسَبْناها حِسابا شَدِيدا قال : لم نعف عنها الحساب الشديد الذي ليس فيه من العفو شيء .

حدثني عليّ قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَحاسَبْناها حِسابا شَدِيدا يقول : لم نرحم .

وقوله : وَعَذّبْناها عَذَابا نُكْرا يقول : وعذّبناها عذابا عظيما منكرا ، وذلك عذاب جهنم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا} (8)

{ كأين } : هي كاف الجر دخلت على أي ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرا ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو : «وكائن » ممدود مهموز ، كما قال الشاعر :

وكائن بالأباطح من صديق***{[11172]}

وقرأ بعض القراء : { وكأين } بتسهيل الهمزة ، وفي هذين الوجهين قلب لأن الياء قبل الألفات ، وقوله تعالى : { فحاسبناها } قال بعض المتأولين : الآية في الآخرة ، أي ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة . وقال آخرون : ذلك في الدنيا ، ومعنى : { فحاسبناها حساباً شديداً } أي لم نغتفر لها زلة بل أخذت بالدقائق من الذنوب ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكران : «نكُراً » بضم الكاف ، وقرأ الباقون : «نكْراً » بسكون الكاف وهي قراءة عيسى .


[11172]:البيت لجرير، وهو من قصيدة يمدح بها الحجاج بن يوسف، وقد ذكر المؤلف صدر البيت فقط، والبيت بتمامه: وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا والأباطح: جمع أبطح، وهو مسيل واسع للماء فيه دقاق الحصى، والمصيبة: ما أصاب من الدهر، يتكلم عن التعاون والوفاء والمساندة بين الأصدقاء في وقت كبر فيه وذهب شبابه، يقول في مطلع القصيدة: سئمت من المُواصلة العتابا وأمسى الشيب قد ورث الشبابا.