ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غوايتهم وضلالهم فقال : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ . . . } .
الاجتباء : افتعال من الجباية بمعنى الجمع ، يقال : جبيت الماء في الحوض أى جمعته ، ومنه قيل للحوض جابية .
والمعنى : وإذا لم تأت أيها الرسول هؤلاء المشركين بآية من القرآن وتراخى الوحى بنزولها ، أو بآية مما اقترحوه عليك من الآيات الكونية ، إذا لم تفعل ذلك قالوا لك بجهالة وسفاهة { لَوْلاَ اجتبيتها } أى : هلا جمعتها من عند نفسك واخترعتها اختراعا بعقلك ، أو هلا ألححت في الطلب على ربك ليعطيك إياها ويجمعها لك .
قل لهم يا محمد على سبيل التبكيت رداً على تهكمهم بك { إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أى إنما أنا متبع لا مبتدع فما يوحيه الله إلى من الآيات أنا أبلغه إليكم بدون تغيير أو تبديل .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات فقال : { هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
أى : هذا القرآن بمنزلة البصائر للقلوب ، به تبصر الحق . وتدرك الصواب وهو هداية لكم من الضلالة ، ورحمة من العذاب لقوم يؤمنون به ، ويعملون بإرشاداته ووصاياه .
ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله [ ص ] والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول :
( وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها ! ) . .
أي . . لولا ألححت على ربك حتى ينزلها ! . . أو هلا فعلتها أنت من نفسك ؟ ألست نبياً ؟ ! . .
إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته ؛ كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه ؛ وأنه يتلقى منه ما يعطيه ؛ ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه ؛ ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه . . والله يأمره أن يبين لهم :
( قل : إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ) . .
فلا أقترح ، ولا أبتدع ، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي . ولا آتي إلا ما يأمرني به . .
لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم ، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول :
كذلك يؤمر رسول الله [ ص ] أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به ، وحقيقته التي يغفلون عنها ، ويطلبون الخوارق المادية ، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه :
( هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .
إنه هذا القرآن . . بصائر تهدي ، ورحمة تفيض . . لمن يؤمن به ، ويغتنم هذا الخير العميم . .
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب - في جاهليتهم - يعرضون عنه ، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل ، في طفولة البشرية ، وفي الرسالات المحلية غير العالمية ، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها ، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها ، فكيف بمن بعدهم من الأجيال ، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة !
إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه . . من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان . . لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان !
فهذا جانبه التعبيري . . ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه - بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني ، ويتفاخرون به في أسواقهم ! - ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر . تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً . والذين يزاولون فن التعبير من البشر ، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه ، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز . . سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون . . فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون . . وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن - في جاهليتهم - ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم - وهم جاحدون كارهون - كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون !
ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد . . يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة - متى خلي بينها وبينه لحظة ! - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب ، وثقل فوقها الركام ، تنتفض قلوبهم أحياناً ؛ وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان ؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن !
إن الذين يقولون كثيرون . . وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات . . ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول ! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب ! . . ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة - : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . . لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم ! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب ! غير أن هذا القرآن يظل - مع ذلك كله - غلاباً . . وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر ، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها ، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين ، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون !
ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه . . وما تتسع صفحات عابرة - في ظلال القرآن - للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه . . فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد !
وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات ؟ !
منهج هذا القرآن العجيب ، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود . . وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها ، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد ، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها ؛ ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه ، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه !
منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يتناول قضايا هذا الوجود ، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبهوعقله بالتسليم المطلق ، والتجاوب الحي ، والرؤية الواضحة . وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة ، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة ، ويوجهها الوجهة الصحيحة .
منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ؛ ويصعد بها - في هينة ورفق ، وفي حيوية كذلك وحرارة ، وفي وضوح وعلى بصيرة - درجات السلم في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . . في المعرفة والرؤية ، وفي الانفعال والاستجابة ، وفي التكيف والاستقامة ، وفي اليقين والثقة ، وفي الراحة والطمأنينة . . إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة . .
منهج هذا القرآن العجيب ، وهو يلمس الفطرة الإنسانية ، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة ! أو أن يكون هذا وتر استجابة ! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب . ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد !
ذلك المنهج ؟ . . أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج . . وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً . . ( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مدداً ) . . ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) . .
إن الذي يكتب هذه الكلمات ، قضى - ولله الحمد والمنة - في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً . يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب ؛ في شتى حقول المعرفة الإنسانية - ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه - ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب . . ويرى . . يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن ؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة ، وتلك النقر الصغيرة . . وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً !
في النظرة الكلية في هذا الوجود ، وطبيعته ، وحقيقته ، وجوانبه ، وأصله ، ونشأته ، وما وراءه من أسرار ؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها " فلسفة " البشر ! . .
في النظرة الكلية إلى " الإنسان " ونفسه ، وأصله ، ونشأته ، ومكنونات طاقاته ، ومجالات نشاطه ؛ وطبيعة تركيبه ، وانفعالاته ، واستجاباته ، وأحواله وأسراره . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع ! والعقائد والأديان . .
في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية ؛ وجوانب النشاط الواقعي فيها ؛ ومجالات الارتباط والاحتكاك ، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات . . الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . .
وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها ! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة !
إنني لم أجد نفسي مرة واحدة - في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية - في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن - فيما عدا قول رسول الله [ ص ] وهو من آثار هذه القرآن - بل إن اي قول آخر ليبدو هزيلاً - حتى لو كان صحيحاً - إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب . .
إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات ؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات . . وما بي أن أثني على هذا الكتاب . . ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء !
لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد . . جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية - لا من قبل ولا من بعد - جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد ، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن . .
لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ - بمشيئة الله وقدره - هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر . وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً . . وهي معجزة واقعة مشهودة . . أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة . . .
ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة ، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام ، تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب ، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه ، وتوجيهاته وإيحاءاته . . كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية . حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى ، التي تفوقه في الإمكانيات المادية - بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة - ولكنها لا تطاوله في " الحضارة الإنسانية " !
إن الناس اليوم - في الجاهلية الحديثة ! - يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن ! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن ! . . فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة ، وجهالتهم العميقة - كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك - دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب ! . . فأما أهل الجاهلية الحاضرة ، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور " العلم البشري " الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة . وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم ؛ ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل . وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب ، وتجدد الحاجات ، وتعقدها كذلك ! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي ؛ الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم ؛ وعن محاولة إلهاء أهله عنه ؛ وإبعادهم عن توجيهه المباشر . بعدما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة : أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين ، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب ، عكوف الجيل الأول ، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته ! . . هو كيد مطرد مصرّ لئيم خبيث . . ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين - وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين ! - وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين ؛ ولتدارس قرآن غير قرآنه ؛ يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها ، ويرد إليه كل اختلاف ، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة ؛ كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون ! ! !
إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم . لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم ! بعدما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم ، ومن الجهل المزري ، ومن التعاليم المغرورة ، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث !
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية . والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه ، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه ! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير :
( هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .
بصائر تكشف وتنير . وهدى يرشد ويهدي . ورحمة تغمر وتفيض . . ( لقوم يؤمنون )فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنّمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىَ إِلَيّ مِن رّبّي هََذَا بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وإذا لم تأت يا محمد هؤلاء المشركين بآية من الله قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول : قالوا هلا اخترتها واصطفيتها ، من قول الله تعالى : وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يعني : يختار ويصطفي . وقد بيّنا ذلك في مواضعه بشواهده .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : هلا افتعلتها من قِبَل نفسك واختلقتها بمعنى : هلا اجتبيتها اختلافا كما تقول العرب : لقد اختار فلان هذا الأمر وتخيره اختلافا . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي لولا أتيتنا بها من قبل نفسك هذا قول كفار قريش .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قوله : وَإذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قالوا : لولا اقتضبتها قالوا : تخرجها من نفسك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قالوا : لولا تقوّلتها ، جئت بها من عندك .
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول : لولا تلقّيتها . وقال مرّة أخرى : لولا أحدثتها فأنشأتها .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول : لولا أحدثتها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : لَوْلا اجْتَبَيْتَها قال : لولا جئت بها من نفسك .
وقال آخرون : معنى ذلك : هلا أخذتها من ربك وتقبلتها منه ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول : لولا تقبلتها من الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول : لولا تلقيتها من ربك .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقول : لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من قال تأويله : هلا أحدثتها من نفسك لدلالة قول الله : قُلْ إنّمَا أتّبِعُ ما يُوحَى إليّ مِنْ رَبّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ يبين ذلك أن الله إنما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بالخبر عن نفسه أنه إنما يتبع ما ينزل عليه ربه ويوحيه إليه ، لا أنه يحدث من قِبَل نفسه قولاً وينشئه فيدعو الناس إليه .
وحُكي عن الفراء أنه كان يقول : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته : إذا افتعلته من قِبَل نفسك .
حدثني بذلك الحرث ، قال : حدثنا القاسم عنه .
قال : أبو عبيد ، وكان أبو زيد يقول : إنما تقول العرب ذلك للكلام يبديه الرجل لم يكن أعدّه قبل ذلك في نفسه . قال أبو عبيد : واخترعه مثل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إنّمَا أتّبِعُ ما يُوحَى إليّ مِنْ رَبّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُم وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يِؤْمِنُونَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للقائلين لك إذا لم تأتهم بآية هلاّ أحدثتها من قِبَل نفسك : إن ذلك ليس لي ولا يجوز لي فعله لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليّ من عنده ، فإنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي لأني عبده وإلى أمره أنتهي وإياه أطيع . هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ يقول : هذا القرآن والوحي الذي أتلوه عليكم بصائر من ربكم ، يقول : حجج عليكم ، وبيان لكم من ربكم ، واحدتها : بصيرة ، كما قال جلّ ثناؤه : هَذَا بَصَائِرُ للنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . وإنما ذكر هذا ووحّد في قوله : هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ لما وصفت من أنه مراد به القرآن والوحي . وقوله : وَهُدًى يقول : وبيان يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم ، ورحمة رحم الله به عباده المؤمنين ، فأنقذهم به من الضلالة والهلكة . لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول : هو بصائر من الله وهدى ورحمة لمن آمن ، يقول : لمن صدق بالقرآن أنه تنزيل الله ووحيه ، وعمل بما فيه دون من كذب به وجحده وكفربه ، بل هو على الذين لا يؤمنون به غمّ وخزي .
{ وإذا لم تأتهم بآية } من القرآن أو مما اقترحوه . { قالوا لولا اجتبيتها } هلا جمعتها تقولا من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله . { قل إنما اتبع ما يوحى إليّ من ربي } لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها . { هذا بصائر من ربكم } هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب . { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } سبق تفسيره .
معطوفة على جملة : { وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم ( فجر لنا من الأرض ينبوعاً ) وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمنن بها } في سورة الأنعام ( 109 ) . وروي هذا المعنى عن مجاهد ، والسُدي ، والكُلبي ويجوز أن يراد بآية ءاية من القرآن يقترحون فيها مدحاً لهُم ولأصنامهم ، كما قال الله عنهم : { قال الذين لا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هذا أو بَدلْه } [ يونس : 15 ] روي عن جابر بن زيد وقتادة : كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبيء هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم .
و { لولا } حرف تحْضيض مثل ( هلا ) .
والاجتباء الاختيار ، والمعنى : هلاّ اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكها ، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيتَ ، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله ، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون .
والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله : { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } صالح للمعنيين ، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد ، أي لا أطلب آية غير ما أوحى الله إلي ، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَا من الأنبياء إلا أوتي من الآيات مَا مثلُه آمنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » ويكون المعنى : إنما انتظر ما يوحى إلى ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقاً بالزمان .
مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة ، والخطاب للمسلمين .
ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به ، فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله : { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .
والإشارة ب { بهذا بصائر } إلى القرآن ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها ، وإفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور .
والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم } في سورة الأنعام ( 104 ) ، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها ، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي ، وبين الهداية والتعليم والإرشاد ، والبقاء على العصور .
وإنما جمع « البصائر » لأن القرآن أنواعاً من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها ، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد ، وتسديد الفهم في الدين ، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس ، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا ، والتحذير من مهاوي الخسران .
وأفرد الهدى والرحمة ؛ لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائِر فالهدى يقارن البصائِر والرحمة غاية للبصائر ، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنلحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .
وقولُه : { من ربكم } ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين .
و { لقوم يؤمنون } يتنازعه ( بصائر ) و ( هدى ) و ( رحمة ) لأنه إما ينتفع به المؤمنون ، فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين ، و { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } خاصة إذ لم يهتدوا ، وهو تعريض بأن غير المؤمنين ليسوا أهلاً للانتفاع به وأنهم لهواً عن هديه بطلب خوارق العادات .