السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

{ وإذا لم تأتهم } أي : أهل مكة { بآية } أي : مما اقترحوها كقولهم : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } ( الإسراء ، 90 ) { قالوا لولا اجتبيتها } أي : هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه ، فإنهم كانوا يقولون : إنّ هذا الإفك مفترى ، تقول العرب : اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك ، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة ؟ قال الله تعالى : { قل } : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات { إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } أي : ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي ، فكل شيء أكرمني به قلته ، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح .

ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض ؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة ، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة ، فكان طلب الزيادة من باب التعنت ، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أوّلها قوله : { هذا بصائر من ربكم } أي : هذا القرآن فيه حجة وبرهان ، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب .

وثانيها : { وهدى } أي : وهو هدى .

وثالثها : { ورحمة } أي : وهو رحمة { لقوم يؤمنون } .

فإن قيل : ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث ؟ أجيب : بأنهم متفاوتون في درجات العلوم ، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد ، وهم أصحاب عين اليقين ، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر ، وهم أصحاب علم اليقين ، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين ، وهم أصحاب حق اليقين ، فالقرآن في حق القسم الأوّل ، وهم السابقون بصائر ، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى ، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة .