البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

{ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } .

روى أنّ الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً فكان الكفار يقولون : هلا اجتبيتها ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم : المراد هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك والمعنى أنّ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تدعيه كما قالوا { هذا إلا إفك مفترى } ، قال الفرّاء تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ، وقال الزمخشري : اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقوله اجتمع أو جبى إليه فاجتباه أي أخذه كقولك : جليت العروس إليه فاجتلاها والمعنى هلا اجتمعتها افتعالاً من قبل نفسك ، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : هلا تلقيتها ، وقال الزمخشري هلاّ أخذتها منزلة عليك مقترحة انتهى ، وهذا القول منهم من نتائج الإمداد في الغيّ كانوا يطلبون آيات معينة على سبيل التعنّت كقلب الصفا ذهباً وإحياء الموتى وتفجير الأنهار وكم جاءتهم من آية فكذبوا بها واقترحوا غيرها .

{ قل إنما أتبع ما يِوحى إلي من ربي } بيّن أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبع ما أوحاه الله تعالى إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها .

{ هذا بصائر من ربكم } أي هذا الموحى إليّ الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن { بصائر } أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيّات وهي جمع بصيرة كقوله { على بصيرة أنا ومن اتبعني } أي على أمر جليّ منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات ، وقيل : هو على حذف مضاف أي ذو بصائر .

{ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي دلالة إلى الرّشد { ورحمة } في الدارين وفي الدين والدنيا وخصّ المؤمنين لأنهم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بما تضمنه ، وقال أبو عبد الله الرازي : أصل البصيرة الإبصار لما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلالة التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصيرة تسميةً للسبب باسم المسبّب والناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام ، أحدها : الذين بالغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين فالقرآن في حقهم بصائر ، والثاني : الذين وصلوا إلى درجات المستدلين وهم أصحاب علم اليقين فهو في حقهم هدى ، والثالث : من اعتقد ذلك الاعتقاد الجزم وإنْ لم يبلغ مرتبة المستدلّين وهم عامة المؤمنين فهو في حقهم رحمة ، ولما كانت هذه الفرق الثلاث من المؤمنين قال { لقوم يؤمنون } انتهى ، وفيه تكميل وبعض تلخيص .