اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (203)

قوله { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } أي : هلاَّ افتعلْتَهَا ، وأنشأتها من قبل نفسك ، والاجتباء : افتعال من : جباهُ يَجْبيه ، أي : يجمعه مختاراً له ، ولهذا يقال : اجْتَبَيْتُ الشيء ، أي : اخترته .

وقال الزمخشريُّ : اجْتَبَى الشيء ، بمعنى جباهُ لنفسه ، أي جمعه ، كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه ، فاجتباه : أي أخذهُ ، كقولك : جليْتُ له العروس فاجتلاها ، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك .

قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه } [ الفرقان : 4 ] أو يقال : هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً ، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي .

ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدحُ في الغرض ؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة ، فهي كافية في تصحيح النبوة ، فطلب الزيادة تعنت ؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بَصائرُ حجج ، وبيان ، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والبصائرُ : جمع بصيرة ، وأصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به ، أي : هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب .

قال أبُو حيَّان{[17126]} : وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً ؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر ، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها أنَّ النَّاس في معارف التوحيد ، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :

إحداها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين .

والثاني : الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين ، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر ، وفي حق القسم الثاني هُدىً ، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة ، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال : " قَوْمٍ يُؤمنُونَ " .


[17126]:ينظر: البحر المحيط 4/48.